ليس هنالك من عاشق ما مرّ بها, ليس هنالك من شاعر أو مثقف أو حالم لم يجد نفسه يوما متعبا هاربا من صخب أيامه بين أوتار دروبها الذهبية …ليس هنالك من مستشرق أو كاتب يذكر اسم لبنان و ما حوله من ربى إلا و خصّها بمادة للدراسة لوحدها لأنها فريدة…ليس هنالك من مشتاق أو مغترب و لا من عازف أو موسيقار تشتهي أذانه اللحن العربي إلا و مرّ من هنالك حالما …مرّ بجانب القمر ليجدها متربعة على عرشه وحيدة ككاهنة الأحزان , ليجدها وسط ديجور الليل النجمة البشرية الوحيدة التي تحادثه في سرى …هي فيروز , قطعة حجر كريم تزيّن الثقافة العربية و يمامة بيضاء لا تفي حقها نوبل أو أوسكار لما كرسّته من أيام شبابها لتكوين هوية موسيقية عذبة …حنجرة من ماس تغني لأيلول الذي اصفرت أوراقه محتضرا في آخر أماسي الشمال الحزينة …وحدها تبقى كزهرة البيلسان التي تحوم حولها عصفورة الشجن …تحبها بالصيف و تعشقها بالشتاء حين يقطفها حبيب لحبيبته في ثنايا القصة الغريبة و يفارقها حين يطلع البكاء لها من خلف نوافذ الوحدة و تهواه دون أمل ..بقلب لا يتعب نفسه …قلب يملؤه حب بعلبك في أسطورة عشق ابتدأت تحت مطر الشتاء و لم تنته …مارة بشط إسكندرية , مرهقة من سهر الليالي , أحبّتْ لبنان و أحبّها قائلة " بيتي هو بيتك لا تهملني" …
قبل شهور قليلة فاجأت محبيها عبر هذا العالم الشاسع بإحيائها حفلا مفاجئا تردد فيه تراتيل العشق و الحب و الوطن و تغريدات عن الدين و السلام , لا ادري ما كانت مشكلتي حينها حيث أنني ترّددت آلاف المرات قبل الحجز …ثم حجزتُ…ثم ألغيت و كان القرار يومها صعبا للغاية …لكن, هل من فنان يا ترى في أيامنا هذه يكن له سامعيه حبا و احتراما بهذا القدر…؟ أم هي فيروز سيدة بيروت و بلبلة الحناجر الباقية من الزمن الجميل التي تمتلك لنفسها هذه الرهبة و العظمة …؟؟
ألغيت مواعيدي حينها و رتبتُ جدول زمني و مع ذلك تراجعتُ ربما لأنني تذوقتُ نغماتها في كل كتاباتي و أدركتُ كم هي منبع للإلهام و للبوح…أدركت في رناتها إحساسا غريبا و ارتجفتُ كلما سمعتها و سمعتها ترّدد تراتيلها في ليل الوحدة و الشجن…ليس من السهل أبدا على من يدرك قيمة هذه اللؤلؤة أن يجلس أمامها وجها لوجه و أن يسمع صوتها قادما من مضائق الحبال الصوتية لا من أستوديو التسجيل و كأنها تمثال لطالما وددتُ أن يقبع في خيالي مع من رحل من العظماء…كيف لا و هي كوكب الشرق الذي أعيد الى الحياة من جديد…مزيج من رنة عود و دندنة كمان … غسق من ليالي الأنس في طرابلس يضيف على خصوصيتها رونقا حين ترى طيف بيروت يمر على خيالك كلما سمعتها …بجمال عشتار تعيدك على جو المسرح الرحباني و أحجار جبيل و صور و بحر صيدا …تشعرك بروح أورشليم و القديسة رفقا و روابي حملايا , كل عبارة من مخارجها هي شبر من أرض فنيقية تكتب و تطبع و تقرأ و تعزف
عدتِ لنا يا فيروز من بعد غياب و كم نحن متعطشون لفن راق ٍ أصبح مندثرا و ذكرى من زمن ٍ ولىّ جماله و ذوقه …أراك قد تركتِ أنفاسكِ في ميادة بسيليس و جاهدة و هبة …سوف تبقين رغم غيابكِ الحاضر و عزلتكِ عنوانا يقصده العاشقون جيلا بعد جيل …يعتقد كل من يتذوق جمال الناي و يغني بجانب الرافد الذي تمر به نسمات الهوى قادمة من مفارق الوادي …ستقصدك ِ الألباب و الخواطر الارستقراطي فنها… النادرة ندرة الحب في هذا العالم.
