على مدى سنوات الوعي لدينا.. قرأنا اجتهاداتٍ عـدّة ٍ ، ومتنوعة ، حول حكمة الصيام ، كلها وبلا شك ، على درجةٍ عاليةٍ من الوجاهةِ ، والمصداقية إلا ّ أنّ اجتهادا ً واحدا ً منها ، لم يُحِط ْ بالمفهوم الجامع ، المانع ، للحكمة الأَوْفىَ من الصيام! ففي مناهج سِنِي الدراسة الابتدائية ،أفهمونا صغارا ً، أنّ الحكمة من الصيام ، هي في أن يشعر الغنيّ القادرُ بما يشعر به الفقير المُعدَم ، من جوع ٍ ، وحرمان ، فيبدأ يلين لذلك قلبه ، ويدفعه دفعاً لأن يفيض على ذلك الفقير، بفضلٍ من مأكلٍ ومشرب ، يقيْه إحساس الجوع ِ والحرمان. وكنّا نرُدّ على ذلك:بأنّ الصيام قد كُتِبَ على الجميع من أغنياء وفقراء،و إن كنا قد فهمنا جدلا ًالحكمة من صيام الغنيّ، فما هي الحكمة إذن من صيام الفقير ؟! إذن فالمسألة تحتاج إلى مراجعات أخرى… ثمّ، وعلى مستوى آخرَ : قال لنا المجتهدون ، في كتبهم الموجّهة إلى طلاب العلمِ في مراحل الشباب : بأنّ الحكمة من الصيام ،إنما هي في تهذيب النفس البشرية ، وكبح جماحها، وذلك بإضعاف الشهوة أو إسكاتها ، بإضعاف النشاط الجسماني … واستندوا في ذلك إلى معنى حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "يا معشر الشباب، مَنْ استطاع منكم الباءة، فليتزوج"، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء " و هذا الاجتهاد مردودٌ عليه أيضاً،لأنّ الصيام كُتِبَ على الصبيّ، والشاب كما على ِالمرأةِ والكهلِ، وكُتِبّ على الأعزبِ كما على المتزوّج ! ثُمّ إن عملية إضعاف الشهوة هنا لا تكون حكمة، وإنما تأتى كنتيجة! كما وهناك مجموعةٌ أخرى من العلماءالذيناستندوا إلى قول رسول الله (صلوات الله عليه): "صُوموا.. تَصِحّوا " واعتبروا أنّما في ذلك، حكمة الصوم ! ولكنهم هنا قد غفلوا عن المعنى الشامل، والواسع للفظة " تَصِحُّوا "حيث أنّ الصحّة لا تكون للبدن فحسب، بل تتعداه إلى صحة النفس ، وصحة الضمير والطويـّة! كما غفل أصحاب هذا الاجتهاد عن أنّه كما للصوم من فوائد صحية في الظروف الطبيعية إلا ّ أنه لا يخلو من مضار ٍواضحةٍ، في حالات الأمراض المزمنة مثلاً،كما أنّ المرأة المرضعة ، وإن كانت غير مريضة ، فإنه مرخّص ٌ لها بالإفطار ،كَوْنَ الصيام قد يؤثر على صحـتها، ومِنْ ثَمّ صحة وإتمامِ إرضاع الوليد . وهنا يبرز إلينا وبإلحاحٍ، التساؤل المنطقي: ما هي إذَنْ ، الحكمةُ الجامعة،ُ المانعة،ُ من الصيام ؟! عندما خلقنا الله سبحانه وتعالى فقد خلقنا على أحسن صورة ، وفى أحسن تقويم .. ومن فضله وكرمه علينا، أنْ فطرنا على مثل بعض من صفاته، فقد جبلنا الله ـ مثلاً ـ على الرحمة، حتى أنّ منـّا من البشر مَنْ نَصِفه نحن بأنه إنسانٌ رحيمٌ، فيما جمع الله لنفسه بين صفتي الرحمن، و الرحيم، واختص لنفسه بصفة الرحمن دون سائر العالمين وهى صيغة مبالغة تليق به وحده … ولقد جبلنا الله سبحانه على الكرم ، ومن صفاته وأسمائه الحسنى " الكريم " ولله المثل الأعلى، بل جعل فينا نحن البشر صفة الخَلْقِ ذاتها، فَمِنّا مَنْ وهبه الله صفة الخَلْقِ بنسبةٍ ما ، ومنّا مَن خصـّه بنسبة أكبر، وهكذا يعطينا الله سبحانه بعضا من مثل صفاته ، وعندما نقول أنّ لله المثل الأعلى فهذا ليس قولاً مرسلاً هنا، أو تعبديا لتعظيم الله وتَنْزِيهه سبحانه فقط ، بل نحن حقاً نَخُْلُقُ، والله سبحانه يَخْلُقُ والفارق: أننا خالقون (محضُ خالقِين !!) بَيْدَ أنّ اللهَ، ليس محض خالق، بل هو الله ( أحسنُ الخالقين) ولكن؛ كيف ندرك نحن البشر أنّ الله " أحسن الخالقين ؟! " والسؤال بشكل أبسط: ما الفرق بين عملية الخلق عند الله سبحانه، وعملية الخلق عند البشر ؟ والإجابة بمنتهى البساطة: أنّ الفرق هو في الكيفيه … إنّنا من المادة، نَخْلُق مادةً أُخرى، فيما يخلق اللهُ الشيءَ من اللاشيء، الله وحده ( دوننا) يَخْلُقُ من العَدَمِ .. وهذه الصفة يتفرد بها وحده، لا شريك له. إذن، نحن متفقون أنّ الله قد أنعم علينا بشيء من مثل صفاته، ولكن لله دوماً، المثل الأعلى فنحن من خصائصنا الغيرة ـ مثلا ـ ، والغيرةُ هي من خصائصه تعالى، ونحن من خصائصنا أنْ نُحِبَّ مَنْ يُحِبَّنا، ونحب ـ أكثر ـ مَنْ يُبَرْهِنُ على صِدْقِ حبه لنا،ومِنْ ذلك أنْ يتحمَّل المشاق والمتاعب من أجلنا، وهذه ـوبحقّ ـ من أعلى درجات الحب،لأنّ المُحِبَّ هناـ هو بالتأكيد ـ قد برهن على صدق حبه لنا ومِن أعلى وأرفع درجات الحب أيضا أن نلبى طلب المحبوب حتى لو اقتضى مِنَّا ذلك تَرْكَ الشهوات والملذات من أجله !! وإذا رجعنا إلى الصيام فماذا عسى يكون مدلوله، سوى هذا الذي ذكرنا ؟! فالصومُ هو من أكثر العبادات التي تنطوي على الحب والرجاء ، أكثر من الخوف والرهبة الصوم هو ترك الملذات والشهوات ـ حتى الحلال منها ـ امتثالا ً لإرادة الله ( المحبوب)، بل والخروج من ذُلّ الخضوع لسلطان العادة، إلى عزّ خيار العبادة والصوم هو تحمل المشاق ، والمتاعب والإمساك عن تلبية الرغائب والاحتياجات، وهذه هي أعلى درجات الحب لله، وأرفعه ومن هنا نفهم قول الله سبحانه " كلّ عمل بن آدم له ، إلا الصوم فإنه لي ، وأنا أُجْزي به "{ أجزي به على قدر المشقة " التي يكمن في احتمالها، دليلُ الحب لله ( الله الذي بإعطائه شيئاً من صفاته علَّمنا أنّ نحب مَنْ يُحِبَّنا، ونحبَّ أكثر، مَنْ يتحمل المشاقَ من أجلنا) وهو في كل ذلك مختاراً ، غير مُسَيّرٍ، أومقهورٍ، مُجْبَر } فالحكمة من الصيام في قول ٍ واحدٍ " اختبار حب العباد للمعبود سبحانه ، وقياس مدى هذا الحب ، بمدى التزام العبد بشرعة الله في تركه ـ ليس فقط الحرام ـ بل ؛ و حتى الحلال من أجله تعالى، وكسر سلطانِ العادة ، والإمساك عن تلبية الحاجة ، وما يستتبع ذلك من تحمّل ٍ للمتاعب والمشاق ، دليلا ً للحب والاشتياق الصوم والإخلاص *الصوم يكون لله وحده دون شراكةأحدٍ من البشر ففي الصوم يَكْمُنُ الإخلاص؛ إذ أنَّ الصومَ هو العبادة الوحيدة (حسب علمي) التي تنفرد بخصوصية كونَها بين العبد و ربِّه، بلا وسيط، أو شريك، وبلا حسيب ٍ، أو رقيب ٍ للعبد إلا الله وحده، إذْ أنها عبادة إمتناع ، لا عبادة إقدام؛ عبادة أنتهاء واجتناب، لا عبادة أخذ وأداء ! والفرقُ: أنّ عبادة الإقدام على الفعل التعبدي يمكن مشاهدتُها، وملاحظتُها مِنْ قِبَلِ الآخرين (الحاضرين ِ) في مكان وزمان الفعل ، على عكس التعبدِ بالترك، والإجتناب ، فهو فعلٌ غير َمشاهَدٌ مِنْ قِبَلَ الآخر ِ وبالتالي يكمن الإخلاص في الصيام ذاتيا، وينتفي الشرك ـ ويختفي النفاق، إذ أنّ المنافق ليس في حاجة لصيامٍ فعليّ لممارسة رذيلة النفاق! الصوم يكون لله وحده دون شراكة ـ حتى ـ العبد الصائم (نفسه) فالمقصود بالصوم هو وجه الله وحده دون أدنى مصلحة، متحققة ـ أو مرجوة _ للصائم(نفسه) كما في باقي العبادات الأخرى ولنأخذ على سبيل المثال الأركان الأساسية في الإسلام، وفي مقدمتها(الشهادة) وهي البوابة الأولى للدخول إلى الإسلام ـ ورغم ذلك ـ قد تُقالُ أحياناً ، من الكافر أو المنافق تقية،وحيلةٌ، إذا أُحيط به مثلا، وكذا الحاج قد يكون في حَجِّهِ شيءٌ من النفعِ الماديِّ أو حتى المعنوي، كما قد يكون الحجُّ ـ وكما الصلاة ـ مشوباً بنوعٍ من المَظْهَرِيَّة والرِياء، وحتى الزكاة قد يخرجها الغني لا لوجه الله، ولا لوجه الفقير، بل قد تكون لدفع أذى وحسد الفقيرنفسه، وضمان ولائه، واتقاء شرِّه، وحتى عبادات الإمتناع الأخرى فهي لا تتوافر على الإخلاص بذات الشكل الذي يختص به الصيام إذا قد يكون الإمتناع عن تناول لحم الخنْزير مثلا مَحْضَ خوفٍ من مضاره الصحية، وكذا السيجاير، وما شابَهها فقد يمتنع المدخن عنها مثلا حفاظا على صحته من مضار التدخين الصحية، وتكاليقه المادية وبالتالي: ففي الصومِ وَحْدَه يكمن الصفاء والإخلاص المؤكد، والثابت، والمُبَرْهَن، عليه، وتنتفي كل شكوكٍ، أو ريبة في شُبْهَةِ شركٍ، أورياء، تقيةٍ، أو نفاق !! الصوم في كلمة هو لله، لله وحده ،لذا فهو وحده يتفهّم كنهه،وطبيعته، ومدى الإخلاص ، والحب فيه وهو وحده ـ سبحانه ـ يعتبره، ويُقَدّرَه، ويُجْزِي به. ***