هدى درويش | الجزائر
من بعد ما شاختْ الأيام على أرضنا الممزقة و منذ أخر النكبات لم يبقَ من هويتنا أكثر من ملامح باهتة … عندما تموت الأغنية في الشرق و تُفرغ منها الروح و الكلمة و النغم , أصبحنا نعود إلى ماضينا و نستنشق من جديد عبق الزمن الجميل … تفاجأتُ يوما و أنا أسمع صدفة : " جثم الكهّان على بلدي" للفنان التونسي الشاب المقيم بروما : مروان سامر , عجبتُ لروحي التي استقطبها لحن العود الذي ما أقنعني به أحد بعد نصير شمّة و مارسيل خليفة … عدتُ لأبحث عمنّ يدندن بأنامله وجع الأمة و يبكيني و يبكيها ببلاغة أصيلة إلى أن شاء القدر ليجمعنا ذات أمسية و يتسامر قلبينا على ضوء القمر :
من هو مروان سامر …؟
إنسان حالم على الدّوام، عاشق للإنسانية وباحث عن الحب الحياة ، مخضرم في حياته و أفكاره، تسكنه الاماكن و العواصم، طيب إلى حدود الذوبان.
تربّيت في أسرة متوسطة الحال عشق الفن منذ الصّغر ومن حسن حظّي استطعت ان أستمع و أتعرّف على انماط وألوان موسيقية مختلفة بفضل أفراد عائلتي الذين كانوا مختلفي التوجه و الميولات.
استمعت الموسيقى العربية الكلاسيكية، الطرب العربي القديم، الاغاني الريفية، الموسيقى الملتزمة، كذلك الموسيقى العراقية التي نشأت على سماعها واستحسنتها كثيرا، الموسيقى التونسية، الموسيقى الجزائرية بكل ألوانها، هذا إلى جانب الموسيقى الغربية و موسيقى العالم ككل.
بدأت خطواتي الأولى و محاولاتي في العزف و الغناء وكان عمري 7 سنوات و ضللت على هذه الحال أجتهد إلى حين التحقت بالمعهد الموسيقي، كان أولا المعهد الرّشيدي للموسيقى ثمّ المعهد العالي للموسيقى إلى جانب دورات تكوينية أخرى في أوروبا.
أسماء كبيرة برزت بذات الفن الذي قدمه مروان سامر …بمن تأثرت و كيف وصلت لتلك الهوية الفنية التي تقدمها ؟؟
للفن الذي أقدّمه روّاد كثر و كذلك مبدعين كثر تميّزوا و ما زالوا يتميّزون في هذا اللون أو لنقل هذا النهج الموسيقي الذي غايته الفن البعيد عن السمسرة و المتاجرة ، ولا سيّما في هذه الظروف التي نعيشها في هذه الفترة نحن في حاجة إلى مثل هذه الأعمال.
أقول أيضا أن الفنّ الذي أقدّمه هو ما أحسّ به في داخلي و ما أشعر به حولي وهو بالتّالي عصارة البيئة و النشأة وكل الظروف الخاصّة التي مررت بها و المدارس التي سمعتها و تأثرت بها.
كذلك احاول كثيرا تجنب القيود و الحواجز في أعمالي الفنية، ففي حالة التلحين مثلا تراني ابتعد تماما عن كل ما هو طابع أو قالب ممنهج و جاهز بل استقرأ النص الشعري الذي أمامي و أستجلي بباطنه و صوره المكنونة وأجعله هو الذي يتكلم بجمل موسيقية دون أن أسقط في اللحن الجاهز و الأفكار المسبقة.
أمّا عن هويتي الفنيّة فلا يمكنني أن أحددها أو أصنفها على وجه الدّقة لا لشيء إنّما لاني رجل أعشق الاختلاف و البحث المتواصل عن كل ما هو جميل و مقنع.
صحيح لي خط سير خاص و طقوس فنية خاصّة و بمجرّد أنك تسمعها ستلاحظها وتميزني عن البقية إلاّ اني في العموم متفتح على أنماط مختلفة فقد لحنت القصيدة الكلاسكية لشعراء كالسياب، الجواهري، مانع سعيد العتيبة، محمّد الهادي الجزيري، سلوى الفندري…
كما تعاملت مع العامّية في عديد المناسبات إلى جانب الفرنسية و الايطالية خاصّة في بعض التجارب التي خضتها كموسيقى الراي و الفولكلور…لذلك أعتقد أن هويتي الفنية لا تنحصر في لون واحد بل تكتمل و تنضج بتنوعها و اختلافها
أين يرى نفسه -موقعه- مروان بين فناني تونس الشباب ؟
أرى نفسي رجل يعمل و يحب المثابرة و الاجتهاد و البحث عن ما هو جيّد و دائم لا يزول بزوال الموضة أو الظاهرة.أحاول الاعتماد على نفسي و قدراتي في كل خطوة أخطوها و إلى حد الان لم يقدّم لي أي شخص يد المساعدة، أسير وحدي ولو بخطى بطيئة حسب الظروف وهذا شيء مؤلم ولكن الشيء الذي أفتخر به أني أجتهد كثيرا لأترك للناس عمل جميل و مفيد.
بالنسبة إلى موقعي أعتبر نفسي مخضرم حيث بدأت مرحلة التلفزيون و الاذاعة و الصحافة و كان عمري 17 سنة تقريبا و أذكر أول قصيدة سجلتها في الاستوديو كان بعنوان "المزيد "للشاعرة التونسية الراحلة سلوى الفندري. أذكر أنها لاقت استحسان جيد من الناس لا سيما أساتذتي في الموسيقى لدرجة أن الملحن العراقي الكبير" فاروق هلال"… قال لي حين سمعها: "أنتَ مشروع ملحن ناضج".
وبعد أن قدّمت عمل ثنائي مع مغني الرّاب الايطالي ﴿ فارسو ﴾ إعتبرني البعض و خاصّة الموسيقيين العرب المقيمين في روما حلقة بين القديم و الحديث وحقيقة يسعدني هذا التصنيف.
هل أعطتك تونس حقك كفنان بنفس تلك الفرصة التي تأخذها بروما …؟؟
بكل صراحة ورغم احترافية الغرب و أخذه للأمور بشكل جيد إلاّ أن عالمنا العربي وبرغم صعوبات العمل فيه كثيرا ما يقدّم لنا الشرارات الأولى للعمل و النجاح.
أنا في تونس و في العالم العربي حتى وإن كنت في فترات طويلة بعيد عن الأضواء و السّاحة الفنية لأسباب كثيرة فإني لم أغب عن ورشات الرّسامين و ملتقيات الشعراء وجلسات رجال الثقافة.
الصعوبات التي واجهتني في تونس كانت بدايتي الحقيقية في التّحدي والنضال الموسيقي وكانت بمثابة امتحان لي مع الواقع الذي يحيط بي من كل الجوانب قدّمت ليّ البدايات الأولى وعلمتني البحث المتواصل و المثابرة وأعطتني الصّبر و طول النّفس و التشبع بالموسيقى العربية ككل.
أمّا روما فقد وفّرت لي أرضية محترفة و فريق عمل رائع وانفتاح جميل ومزج ثقافي و موسيقي بديع خاصّة و أن المجموعة التي أعمل معها تضم كل الجنسيات وكل الأطياف و هذا الشيء العالمي طالما حلمت به و لهذا أقول بالنسبة لي تونس و روما هما محطتان يكمّلان بعضهما البعض.
من هي أقرب الاصوات العربية الى قلبك حاليا ؟
حقيقة أنا أعشق الصوت الحسن و المؤدّي الصحيح لكن ما يهمني أكثر هو المدارس الموسيقية و الغنائية و السبب في هذا هو أني لاحظت أصوات عملاقة و باهرة ظلّت سجينة أداء أعمال غيرها و هذا لا أحبّذه كثيرا.
رغم هذا يمكن أن أذكر لك بعض الأسماء التي تعجبني و أسمعها باستمرار
ناظم الغزالي، فيروز، نصري شمس الدين، صباح فخري، لطفي بوشناق، الشاب خالد، كمال المسعودي، كاظم الساهر….إضافة إلى أصوات أخرى غير معروفة.
هل ترى البوعزيزي بطل تونس الأول و هل تسمي ما قام به ثورة ؟؟
البوعزيزي عليه رحمة الله كان واحد من ألاف الشباب الذين يعانون من البيروقراطية و احتقار المسؤولين و أصحاب القرار لهم وسد أبواب الحوار أمامهم هو ما يطلق عليه الشباب في بلدان المغرب العربي مصطلح " الحقرة "، ثمّ لا ننسى ان البوعزيزي كان يعيش في محيط تكاد تنعدم فيه فرص العمل و الحياة الكريمة و هذا بطريقة أو بأخرى يمسّ بكرامة المواطن و خاصّة شاب في مقتبل العمر يعمل كل شيء ليوفّر قوته و قوت عائلته.
بالنسبة إلى مسألة البطولة أعتقد أنه لا يمكن أن ننظر للموضوع كمسابقة ، البوعزيزي واحد من مئات و آلاف المناضلين الذين قضّوا حياتهم لافتكاك الحرّية و الكرامة و لو عدنا إلى الماضي القريب أي تحديدا سنة 2008 في أحداث الحوض المنجمي لعثرنا على حالات مشابهة للبوعزيزي و لما قام به لكن الظروف السياسية و الامنية آنذاك لم تكن هي التي صادفت فترة البوعزيزي و التي كانت فيها النفوس المريضة متعطّشة للشروع في مشروعها السرطاني الذي سمّته القوى الامبريالية ثورة الياسمين ثم غيّروا هذه التسمية إلى كلمة الرّبيع العربي.
لذلك لا أسمّي ما قام به ثورة إنّما محاولة احتجاجية على ضنك العيش و صعوبات الحياة استغلتها عناصر خارجية و داخلية لغاية واحدة هي الحكم و اتمام المخطط المرسوم و الذي تمّ اعداده بصيغة محكمة قبل حتى أن يشعل البوعزيزي النار في نفسه.
هل تصلح النهضة لحكم تونس … ؟؟ أم أن الشعب هو الذي لم يتقبل التيار المتشدد سياسيا ؟؟
النهضة حاولت أن تلمّع صورتها و أن تبيّن للجميع بأن خطابها الديني و السياسي إنما هو خطاب معتدل لا يقصي أي طرف و إنما هي جاءت لإصلاح ما أفسده الدّهر لكنّها رغم كل هذه الجهود فشلت في إخفاء ماضيها الدّموي و العنيف مثلما فشلت في توفير الامن و الحياة البسيطة للمواطن البسيط.
الشعب رفضها و لفظها ليس لكونها حزب ذو أبعاد دينية لان هذا ليس من اهتماماته الان ،إنّما لما شهدته فترة حكمها من فوضى عارمة على جميع الأصعدة فثقافة القتل و التكفير و الذبح والتمثيل بالقتل هي ثقافة جديدة و مفزعة بالنسبة للمواطن التونسي ، هذا إضافة إلى التلاعب بمؤسسات الدّولة و أجهزتها حيث ترى أهم الوزارات التي هي وزارات السيادة كلها تقبع تحت سيطرة الحزب الحاكم و تقوم بدور تعسّفي لم يساهم إلاّ في ضرب وحدة الشعب و تقسيمه إلى كافر و مسلم .
كلمة واحدة لرجلين برزا في الساحة , لو كانو أمامك ماذا تقول لكل منهما : شكري بلعيد … محمد البراهمي ؟؟
أقول لهما :
"لا تأسفنّ على غدر الزّمان لطالما رقصت على جثث الأسود كلاب"
و أقول أيضا :
"جثم الكهّان على بلدي و عسى من صاغك ينجده"
هل بسمة خلفاوي الآن تمثل المرأة التونسية ؟؟
بسمة إمرأة قوية و عنيدة وقد أثبتت قدرتها في الصّمود و الّنضال ومواصلة مسيرة زوجها الشّهيد شكري بلعيد و هي أيضا إمرأة متفهمة و متحضرة ،لكن بالنسبة لكونها تمثل المرأة التونسية فهذا الشيء لا يمكنني أن أسمح لنفسي بالإجابة عنه.
ما المشاكل التي اعترضت طريق نجاحك ؟؟ على المستوى الشخصي و العملي …؟
باختصار شديد :
قلّة ما باليد ، انعدام الإمكانيات ، الأنانية و البيروقراطية.
ما حدث بمصر في 30 يونيو … انقلاب ام ثورة ؟؟
أنا أنسان يكره العنف مهما كان مصدره و حسب رأيي لا هو أنقلاب و لا هو ثورة إنما استكمال لمخطط هدم مصر و تفتيتها رغم أني متحفظ على نظام مرسي لأنه كشّر عن أنيابه منذ البداية و كشف عن عمالته و خدمته لاجندات خفية كما فشل في الحفاظ على وحدة مصر و أمنها و شعبها.
"جثم الكهان على بلدي "… هل أخذت هذه الاغنية الصدى الذي تستحق ؟؟
جثم الكهّان هي مقطع صغير من قصيدة مطولة كتبها الشاعر التونسي محمد الهادي الجزيري في شكل معارضة لقصيدة الشاعر القيرواني ابي الحسن الحصري "ياليل الصب"ّ … وقد لحنت منها القسم الاطول بمطلع يقول:
العاشقُ…….. لا مَن يُنجدهُ من بطشِ حنينٍ يجلِدهُ
مِنْ بدءِ الخلقِ يُطاردُه طيفُ المعشوقِ ويُجهِدُه
سكنتْ حممٌ ورست سفن فإلامَ يدومُ تشرّدُه؟
وإلامَ يلوذ بزفرتِه جزَعا من ليل يرصُدُه؟
و مؤخرا و تماشيا مع الأحداث نزّلت المقطع الأخير بعنوان "جثم الكهّان على بلدي " نظرا لتطابق كلمات هذا المقطع مع الظروف السياسية و الأمنية و الاجتماعية الرّاهنة في البلد.
بالنسبة للصّدى الذي حققته أعتقد أنه مازال غير الذي يليق بها لأنها في الحقيقة قصيدة رائعة كلّفت الشاعر ليال من السهر الأرق وأنا شخصيا أعتبرها من أصعب الأعمال التي لحنتها و قصيدة ذات أبعاد و صور راقية و صادقة.
لكن ما يسعدني هو ذلك الانطباع الجيّد الذي أراه و أحسّه في نفوس الحاضرين في كل مكان أقدّمها فيه إضافة إلى رسائل الاعجاب التي تصلني على صفحات التواصل الاجتماعي لدرجة أن أمين عام واحد من الأحزاب اقترح عليّ أن تكون نشيد حزبه و طبعا رفضت.
ما جديدك و مشاريعك ؟؟
أنتهيت قبل فترة الصيف من تسجيل قرص مع مجموعة " ميدينا ساوند" و هو عمل جاء نتيجة بحث طويل من قبلي و من قبل المنتج الايطالي " بوب سيلميري" حيث عملنا على تسجيل مجموعة من قصائد الشعراء العرب في صقلية كابن حمديس و ابن غبير… بقالب موسيقي لا هو عربي و لا غربي بل بشكل مدروس و عالمي جمعنا فيه آلات موسيقية من كل العصور و من كل الثقافات ، اضافة إلى طريقة الغناء التي استعملتها اعتبرتها مراوحة بين الموال و الغوسبيل
أيضا لي مشروع جديد سنشرع في تنفيذه ان شاء الله بداية من شهر نوفمبر مع المنتج و الموسيقي الايطالي " فابيو دي بياغيو" لتسجيل قرص كامل و ستكون مشاركتي بالغناء و العزف إلى جانب مجموعة أخرى من الموسيقيين العالميين مثل الانجليزي " دافييد جاكسون " .
أيضا لي دعوة للمشاركة في أغنية راب تحمل موضوع ملتزم مع الفنان " أيمير" وهو ايطالي ذو أصول مصرية.
هذا بالنسبة للمجموعات على الصعيد الشخصي سأحاول ان شاء الله تسجيل أوبيريت الرّحيل و مجموعة من القصائد و الاغاني ستكون بلهجات مختلفة لشعراء مختلفين أمثال محمد الهادي الجزيري ، ادم فتحي ، كريم العراقي ، و مفاجأة أخرى ستكون من كلمات أحمد مطر و سأعلن عن تفاصيلها في وقت لاحق.
كلمة أخيرة …
لكم الشكر الجزيل على هذه المساحة و هذا الفضاء الشيق الذي يمد روابط الوصل و الجسور بين الأحبّة وأشكر الصحفية و المبدعة الراّئعة هدى درويش التي استطاعت بأسئلتها الذكية أن تستفزّ دواخلي و تجعلني أحكي أشياء سكتّ عنها طويلا.