حاورتها هدى درويش | الجزائر
ركضٌ خلف الذاكرة … الصخرة و البحر …حيرةٌ نرجسية …المشهد و الظل … رحلة البحث عن الهوية …الرسم على الروح و غيرها … كلها كتابات حملتْ اِسم مثقفة تونسية فذة بأصالتها و مبادئها و جرأتها الأدبية في تصوير الحقائق قرأتُ لها بين شموع غرفتي ذات ليلة و عجبتُ للتصوير الفنيّ البهيّ الغريق في الإبداع , عجبتُ لتحفة في نظري ما زالتْ لم تأخذ من الأضواء ما تستحق … و أبهرني كيف للكاتب أن يكون حكواتي روايته فقط و يمكنه بكل سلاسة أن يتحكم في حبكة الأحداث عن بعد …كتاباتهاكسرتْ الكتابات النسائية السائدة وخرجت من مواضيع العزلة والأنوثة الجريحة مزيج بين السياسة و الحنين و الوطنية و الفلسفة , فيها الكثير من الحب و الجنون و الزخرفة الأدبية و ملامح الهويّة التونسية … حزينة كانت حين تلفظتها أمامي بتعب : " لقد أُجهضَتْ الثورة في وطني" بعدها بدأنا حديثنا بألم عفوي , لم أحضّر أسئلتي لأنها نبعتْ لوحدها من مجموعة الاستفهامات و الاندهاشات التي زرعها في عمق روحي حرفها النثري المقتدر و هي أيضا أجابتْ كما لو أنها ترسم بسمة و حيرة و ذكرى …
°° هويام الفرشيشي من مواليد تونس… أيّ منطقة تحديدا ؟
ولدت في العاصمة لأن والدي كان موظفا في العاصمة ووالدتي اصيلة المدينة "العربي" بتونس وتحديدا باب سويقة… ما فارقتْ روحي يوما هذا الوطن لذلك كان و سيظل حاضرا على مكتبي .
°° حدثينيّ أكثر عن مشوار " هويام في الحياة" … المناصب و الوظائف التي صنعتْ تجرتبك ِ ؟
…لم أتقلد أيّ منصب لأنني مستقلة سياسيا وثقافيا ولا أميل إلى تقلد المناصب، في 2003 في بداياتي مع الصحافة والكتابة الأدبية التقيتُ "حياة الرايس" في برنامج تلفزي، وطلبت مني اِثره أنْ أُصبح رئيسة رابطة الكاتبات في ولاية "بن عروس" لأن الرابطة كانت مسيسّة ، وأنا أميل إلى الاستقلالية لكي أكون سيّدة كتاباتي ومواقفي … شخصيا أرى أنّ المنصب قد يكون الكاتب جديرا به حين يُثبت نضجه الفني، وحين لا يُعرضه إلى اِملاءات سياسية… كما توجت بدرع المثقف للثقافة والأدب والفنون في اليوم العالمي للمرأة 2012، دعيت للإشراف على صفحات خاصة بالمرأة في جريدة السفير التونسي وحاورت من خلالها مبدعات تونسيات وعربيات وكتبت عن مشاغل المرأة المبدعة، وهناك عرض آخر للمستقبل القريب حول نشاط إعلامي خاص بالمرأة. في النهاية تبقى هويام الفرشيشي امرأة في الساحة الثقافية والإعلامية التونسية تصارع الحياة و تحلم بالحريّة.
°° لكِ في الكتابات النقدية بصمات أيضا … أوركسترا الشاعر …؟
صدر لي كتاب نقدي" أوركسترا الشاعر 2004" تناول تجربة الشاعر التونسي يوسف رزوقة… المجموعة القصصية " المشهد والظل" في أواخر 2010 وحصلت على جائزة الكريديف بعد الثورة مباشرة وهي جائزة وطنية… ربما لو جمعت الدراسات النقدية التي كتبتها والحوارات التي أجريتها سأنشر سلسلة من الكتب.
°° بعد سنوات من العطاء الفكري و الصحفي … لو سألتُ هويام عن حنينها … وكيف ترى نفسها بين نساء الدنيا … هل هي راضية عمّا صدر عن شخصها … عن قراراتها … عن هزائمها و نجاحاتها في هذه الحياة …؟
كل مفردة هي حبلى ومتكاثرة لذلك سأنطلق من مفردة الحنين …ككاتبة قصة لا يمكن أنْ أنفصل عن حنيني إلى طفولتي، عن ذاكرتي، عن أسئلتي الأولى، عن دهشتي، عن الغموض الذي كان ينتابني، عن رغبتي في الاكتشاف، عن الحركة المتمردة على السكون. طفولة أشبه بالملهاة في المدينة التي عشتُ فيها في الضاحية الجنوبية للعاصمة في مكان مرتفع تشهد فيه ديار الأوربيين بالقرميد الأحمر والحدائق الكبيرة على أنّه مكان يحلو فيه الاستقرار، مكان منفتح بامكاني أنْ أستعيد فيه صفوي ولحظات تأملي …مع كل زيارة للمدينة العتيقة بالعاصمة حيث دار جدي للأم، أو للقرية حيث عائلة والدي. فضاءات مكانية تختلف من حيث التصميم الهندسي والعادات ونماذج الشخصيات وطرق الاحتفال وكيفية الحزن، منها انطلق خيالي نهارا وحلمي ليلاالحنين إلى ارتساماتي الأولى حين اكتشفت أنّ الكتابة معنى يراودني أيام الطفولة في الفضاءات المكانية التي كنتُ أتحرك فيها بدءا من فضاء المدينة العتيقة بتونس …ساحة الحلفاوين وساحة باب سويقة وجامع صاحب الطابع والاسواق التقليدية والحدائق وكأنها رموز الانطباعات الطفولية… أما عنيّ كامرأة لا أشبه إلا نفسي وذاتي التي تنعكس في كتاباتي… تاركة صراعا داخليا بين حلم يعيد تمثل الواقع بتصورات ذاتية وبين واقع يزعج الذاكرة،مسافة فاصلة بين الواقع تسكنه الرؤى وحلم تستيقظ فيه الهواجس .
°° كيف تريْن الوضعية الثقافية في تونس و الوطن العربي ككلّ ؟
قد أتطرق إلى الوضعية الثقافية في تونس لأنّ سكان مكة اعرف بشعابها كما يقال، الثقافة في تونس غير مستقلة على السياسة قبل الثورة أو بعدها، لذلك فان وضعية المثقف أو المبدع لم تتغير، فاِما أنْ يكون مواليا للسلطة القائمة وإما يقع تهميشه وعدم الاعتراف به…من يمثل تونس في الملتقيات والمهرجانات العربية هم من يشرفون على تنفيذ المشاريع الثقافية كما تخطها السلطة ومن خلال توجهاتها وخطوطها العريضة…اللجان الثقافية غير محايدة و غير نزيهة , الأمَّر من هذا أنّ ميزانية وزارة الثقافة تقلصت في تونس مع تشكل حكومة الترويكا وعرفت الكثير من التظاهرات انتكاسة بسبب غياب الدعم المادي من الوزارة، هذا إضافة إلى انتشار ظاهرة اللوبيات الثقافية والسمسرة والمرتزقة الذين يتهجمون على المثقفين والمبدعين الذين تميزوا بكتاباتهم النقدية…الوضعية الثقافية لا تتنفس جيدا لأنّ الساحة الثقافية مازالت ملوثة…كنتُ قد كتبت عن هذا الموضوع سابقا في جريدة السفير التونسي من خلال مقال عنونته بثورة الكبت،
تطرقتُ للسياسيين الذي دخلوا السجن سابقا أو عاشوا فترة بعيدة خارج الوطن من خلال خطابات تحريضية واقصائية لفئات عريضة من المجتمع التونسي. ولم يخف الكبت عن المتقنعين باسم الدين سواء كان ذلك من المجموعات السلفية التي تبين أنها مليشيات تنفذ أجندة سياسية ومكونة من عناصر منحرفة وتركيبة هجينة نجد فيها حتى الشاذ والراقص وتاجر المخدرات وقامت بالاعتداء على الأفراد والمؤسسات. كما لم يخف الكبت عن الجوامع حيث نجد الخطاب التكفيري الداعي للتقتيل وقطع الأيادي والأرجل…الفن بدوره نفس عن الكبت عبر إنتاج أشرطة وثائقية ضد نظام بورقيبة لا تخلو من مغالطات ومن خلط الحقائق لتأليب الحركة اليوسفية على الدساترة، وكان الدساترة لم يناضلوا يوما من أجل الاستعمار. وقد وقع استغلال وتوظيف بعض المعارضين للنظام البورقيبي لتنفيذ هذه الأجندة الفنية للسياسيين. ليعمل الفنان ويبدع في ظلام دامس وعتمة مطلقة يتحول إبداعه نحو نسق لا تقتضيه شروط الإبداع بقدر ما تقتضيه الاستجابة الآلية للإغراءات المالية سيما وأنه تقاضى أجره من قطر منتجة هذه الأفلام والتي تدفع بسخاء.
°° ما أحوال الحب في حياة هويام الإنسانة البعيدة عن الأضواء …و ما الذي يشكل إضافة إليه منابع الوحي الإبداعي لديك ؟
من ينشأ ويتربى على تصورات مطلقة للحب وعلى أحاسيس ينصهر فيها الجمال الباطني بجمال الطبيعة والفنون… من ربى ذائقته الفنية على أغاني ام كلثوم وهي تنشد بأن الله محبة والخير محبة والنور محبة،وعلى الشعر الرومانسي ونظريات الجمال الرومنطيقي، فهو يستجلي من خلال الحب الجانب المشرق في النفس والشعور والفكر. ويحوله إلى رؤية خاصة للعالم من زاوية جميلة تتوحد فيها الكائنات والمشاعر الإنسانية رغم أنّ الواقع يعصف بالتناقضات والصراعات الايديولوجية والاجتماعية. لذلك فالحب هو إحساس دائم يلازمني يتلبس بكل موضوع يلقي بظلاله أو نوره على هذا الإحساس الباطني… بل هو الذي يشكل لي منبع الإلهام الأول، أو الحافز الذي يجعل القلم أكثر حساسية وبراءة وارتفاعا، حتى وان رسم سواد الواقع أو خيوطه العنكبوتية أو الروح الدرامية للشخصيات فهو يرنو إلى رسم لوحة أكثر نقاء ونصاعة، هي الورقة العذراء قبل أنْ تتلطخ بالحبر، وهي الينابيع التي تعيد للعالم الخارجي توازنه واِنْ بدا صاخبا أو عنيفا أو قاتما.
°° ما جديدك … هل من رواية مطوّلة ربّما مفاجئة من إبداع قاصّة و كاتبة مقالات لم تخض في النثر الروائي من قبل ؟
لديّ رواية جاهزة للنشر عنوانها "الطريق إلى الشمال" ومجموعة قصصية عنوانها "عتبات الذاكرة " … سافي بتفاصيلها في الوقت المناسب .
°°كلمة أخيرة … رسالة … أمنية … ماذا في جعبتك في الختام ؟.
اختم لأقول أن الكتابة لا تستقر إلا على مرفأ الذاكرة حين تهب عواصف الحاضر بتغيراته وهزاته وانكساراته وشروخه، لان الكتابة هي أوراق مبعثرة لا تنتظم او تتآلف معانيها الا من خلال الاستماع الى موسيقى الروح وهي تسترجع صدى الصور والمشاهد القابعة في الذاكرة، وان الانسان لا يصنع الآتي الا من خلال الوقوف على ارض ثابتة ليعيد ترتيب علاقة وعيه بالزمن الحاضر باللاوعي الكامن بوجهيه: الوجه المعتم والوجه المشرق لان لحظة الكتابة هي لحظة تحول والتحام بين النور والعتمة، بين الماضي والحاضر، بين الارضي والسماوي.. ان الكتابة حلم تحرر النفس من الرغبات المكبوتة في اتجاه الحياة المشتهاة التي نتشوف من خلالها انعكاسا لأشعة الشمس على ستائر النافذة صباحا تذكرنا بان البدايات هي القادح للنهوض من كل شعور جاثم بالانتكاسة او التعلق بلحظة عبث أو لوحة سريالية…ان الكتابة تماما كالدماء التي تتدفق في الشرايين وينبض بها القلب وتمنح الحركة للفكر والجسد..استشعر من خلالها ان الانسان هو سيد الكائنات..ولو حرر طاقاته الكامنة من خلال تحرير ذاته عبر الكتابة يستجلي حتما حقائق الحياة والكون عبر الالتحام باسرار الجمال… و كل التقدير لك ولاسئلتك ولاهتمامك .