رؤرؤرر ميرلاند ـ راي اليوم: في متحف اللوفر الباريسي…
في متحف اللوفر الباريسي تشاهد مومياءات محنطة لفراعنة مصريين في أقفاص زجاجية ، بمشهد يثير الرهبة ، والذهول ، حيث تعود بها إلى عصور لم يتبق منها سوى القصص والجثث التي لم تزل تشهد على أزمنتها الغابرة ، بقوة بقائها ، وصمودها الحي حتى أجيال لاحقة .
موضوع يلقى اهتماما على نطاق واسع في الغرب ، من باحثين وعلماء آثار ، وصحافيين ، وجمهور ، بين وقت وآخر يتم طرح هذه التيمة صحافيا وإعلاميا من خلال تغطية أخبار المعارض التي تشكل خلية عمل متواصلة لحشد عدد من تلك المومياءات حول العالم ، ووضعها بين يدي الزوار ، وهو ما توقفت عنده صحيفة الواشنطن بوست ، في السابع والعشرين من سبتمبر، في زاوية المتاحف ، بمقالة معنونة : مومياءات العالم : الموت على مستوى النظر ” لمراسلة الصحيفة ” Lonnae O’Neal Parker” .
متحف موتى
إنه أكبر معرض متنقل من المومياءات والقطع الأثرية ، و رؤساء المومياء المصرية جزء من مومياءات المعرض .150 قطعة من المومياءات المتجولة عبر العالم في تسع محطات آخرها في بالتيمور الساحلية -أكبر مدن ولاية ميريلاند الأمريكية ..
فما هي انطاباعات الزائرين ؟
قد تكون ردة فعل الزوار لأول مرة : واو ، موتى …واو …مثير للقشعريرة ! كما تقول ” لونيه “
” انتظر ، هل هذه وشوم ؟ “
لا غرابة أن تتوقع الكاتبة هذا الانطباع فحتى الجماجم والمومياءات أصبحت موضة رائجة حول العالم …والسؤال هوحول إمكانية تحول الوشم إلى جثة محنطة تخرج من جسدك لتراها شاخصة أمام ناظريك في متحف للموتى مثلا !
تقول الكاتبة :
( صدى البدائية ينبعث من ضوء القاعة الخافت مجرد دخول الزوار …معرض لمومياءات محنطة طبيعيا وقصديا ، كأنها جسد نيئ ، تثير الحميمية مع الموت بما يثير الشعور بالقلق ..تبدأ بمجرد ولوج المدخل عندما تكون وجها لوجه مع الموت حيث ترى المومياء داخل الزجاج ، يسري وخز في عمودك الفقري وأنت تنتقل من مومياء إلى أخرى …)
مراسلة الواشنطن بوست حاورت رئيسة المعرض الأكاديمية ومديرة قسم العلوم والتعليم ” لمومياءات العالم ” ” هيثر جل فريركنغ ” التي وصلت بمعرضها لمجمع العلوم في ميريلاند ، حيث أوضحت أن جسد الإنسان بطبيعته يتحلل ولكننا هنا مع بشريين أو حيوانات لم يتبعوا تلك العملية الطبيعية ، الكثير من العوامل البيئية والثقافية التي ساعدتهم على البقاء لآلاف السنين والقرون ، وسوف يبقون حتى بعدما أمضي أنا وأنت ) .
بطاقة هوية للموتى
المعرض الذي انطلقت أعماله في لوس إنجلوس عام 2010 يضم مومياءات من 21 متحفا من سبعة بلدان معظمها أوروبية .. وتنحدر المومياءات من أمريكا الجنوبية وأوروبا وآسيا ومصر، ومعظمها تشمل رجالات ذوي مكانة عالية في مجتمعهاتهم ، ونساء مع أطفال، وقط، وفأر، وسحلية ،،وقرد ..”
الموت من المحرمات الثقافية
حين يكون الموت قدرا ، فلا بد من التعامل مع الميت بقداسة ، وهذا ما نمارسه خلال طقوس غسل الميت مثلا ودفنه …رغم أن طقوس الدفن تتبع لثقافات موروثة تختلف بين الشعوب ، وكلها تنظر إلى الموت كونه كينونة للغموض ، أو الرحيل لعالم غيبي ، يثير في النفس الكثير من الرهبة مهما بلغت درجة الاقتراب من الجثة ، يبقى طقسا يصعب علينا اعتياده بشكل قاطع .
الموت كما تذكر ” فريركنغ ” لم يزل تابو ، من المحرمات الثقافية …وبشكل أو بآخر علينا أن نعتاد على هذه الصور ، فعليا نحن من نضع التوابيت الخشبية ، ونحفر ستة أقدام تحت الأرض ، نضع شواهد القبور من الحجر والإسمنت والرخام بيننا وبينهم ، ننزلهم بالملابس التي ماتوا فيها …..”
الآن تَمْثُل هذه المومياءات الملفوفة بالضمادات على مستوى العين في متحف الموتى ، بمسافة قريبة جدا تمكنك حتى من رؤية عصب أفخاذهم ، والأوساخ التي تتكوم تحت أظافرهم !
يقول ” ماركوس كوروين ” رئيس المعارض الأمريكية – للواشنطن بوست – : ( كانوا أناسا حقيقيين يعيشون حياة حقيقية ،هناك اعتبارات أخلاقية وامتيازات يجب أن تبذل من أجل كرامة الإنسان وسلامة الثقافة ، معرض الرفات هو عمل جاد ، لا يجب القيام به عن ظهر قلب ، ) .
حكايا الموتى
تكتب الصحافية ” باركر ” :
( أنت تقوم بهذا العمل وأنت تركز على الحكايا ، بعضها يخبرك به العلم ،خضعت أغلب المومياءات لتصوير الكمبيوتر المقطعي الذي يزودك بشرائح صغيرة من العظام والأنسجة ، ومعلومات تساعدك بتحديد العمر وسبب الوفاة أحد المومياءات لطفل من ستةآلاف وخمسمئة سنة ، عمره من 8-10 أشهر في البيرو ، تم تكفينه ولم يزل لديه طبقة من الجلد وأظافر لأصابع القدمين ورموش وشعر ، مات بسبب عيب في القلب والتهاب رئوي ..
قصص أخرى رويت ببعض الوثائق والسجلات التي تم العثور عليها مع الجثث ، عائلة مجرية قضت بسبب اندلاع السل في قريتهم في القرن الثامن عشر للميلاد وكانوا بين 250 شخصا دفنوا في سرداب كنيسة . وكانوا محنطين .
المصريون أيضا حنطوا الحيوانات الصقور الأسماك وأطفال التماسيح ..والقطط ،هذه المومياءات الحيوانية يتم حفظها بالهواء الجاف تعود لآلاف السنين- وفي الجليد و المستنقعات والكهوف ، تم العثور على ابن آوى ، و سحلية ، و على جرذ محنط في أحد مكاتب مانهايم بألمانيا وهو أكثر حداثة .
أما مومياءات جنوب أمريكا الممدة أو المطوية أو التي تجلس القرفصاء تحتوي امرأة بوشم على وجهها ، وأخرى حليقة مع طفل تحت رأسها ..)
المومياءات تثير الحزن في حكايا الموت ، إنك إذ تقف في حضرة القصص تستشعر قسوة الميتة ، مومياءات لأطفال تلمس دموعهم السرية من وراء زجاج ,,,عالم موتى يواجهك بحقيقة الحياة بعد الموت ولو في متحف للمومياءات …ما يتبقى التمثال الذي يروي لك حكايته دون أن ينبس ببنت شفة ..فالموت راو صامت ووقور ، وعليك أن تجيد الإصغاء للأزمنة .
أُلفة المومياءات
جيل فريركنغ قالت : إنها تعمل مع المومياءات من سنوات ، بعض الأحيان لوحدها في أماكن معزولة : ( أعاملهم بكل احترام كبشر ، أتحدث إليهم بأسمائهم ، تماما كما تتعامل الطبيبة مع مرضاها ، المومياءات تزن 40-50 باوندا ” كل كيلو يزن 2ز2 باوند ” ، وقد تم تجفيف المومياءات وهي بلا أدمغة ، وإن عادت للحياة أنا على ثقة أنني أستطيع أن آحتفظ بها ” .
رفقة المومياءات إذن هي رحلة انتظار لعودتهم للحياة …إنها فلسلفة التأمل بالنظر ..فأنت لا ترى على مستوى عينيك تمثالا أو لوحة وحسب إنما ترى كوائنا تحولت إلى تماثيل موت ، يمكن لها أن تفاجئك في أية لحظة ، وتخرج من التمثال بلا جثة !