هل سيتجاوز اردوغان الازمة الحالية” الاجابة نعم.. ولكن بجروح اعمق وهيبة اقل
عندما انفجرت الاحتجاجات الصاخبة في حديقة غيزي وسط اسطنبول تسرع الكثيرون، خاصة من كارهي السيد رجب طيب اردوغان داخل تركيا وخارجها، وقالوا “ان ايام الرجل باتت معدودة”، ولكن هذه التنبؤات تبخرت، واستطاع الرجل، بما يملكه من حنكة ودهاء سياسي، ان يستخدم المحكمة العليا كسلم للتراجع، والنزول عن شجرة الازمة بكل رشاقة مع تقليص الاضرار الى الحدود الدنيا.
انفجار فضيحة الفساد التي تورط فيها بعض ابناء الوزراء وكبار المسؤولين في حزب العدالة والتنمية حسب التحقيقات الاولية، اثار حملة من التكهنات مشابهة للاولى، وجاءت استقالة ثلاثة وزراء (الداخلية والاقتصاد والبيئة) لتطرح العديد من الاسئلة حول مدى قدرة الرجل، اي اردوغان على الصمود في زعامته للبلاد.
الازمة بدأت يوم 16 كانون الاول (ديسمبر) الحالي عندما القي القبض على عشرات الاشخاص من بينهم رئيس بنك خلق المملوك للدولة بتهم الفساد، ووضعت الازمة اردوغان في مواجهة مع السلطة القضائية واشعلت مجددا المشاعر المناهضة للحكومة.
اثنان من الوزراء المستقلين (الداخيلة والاقتصاد) اعتبروا تحقيقات الفساد هذه مؤامرة تتورط فيها دول خارجية على رأسها الولايات المتحدة مكررين تصريحات مماثلة للسيد اردوغان، لكن وزير البيئة اردوغان بيرقدار انقلب على زعيمه اردوغان وطالبه بالاستقالة “من اجل صالح الامة وصالح البلد”.
السيد اردوغان واجه الازمة بتعديل وزاري سريع ادى الى تغيير تسعة وزراء في الحكومة، في محاولة لامتصاصها، وحقق نجاحا جزئيا في هذا الاطار، ولكن انخفاض قيمة الليرة التركية الى معدلات غير مسبوقة يعتبر مؤشرا على محدودية اثر هذه الخطوة، خاصة ان نقطة قوة اردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه هو الاقتصاد.
رصيد اردوغان في الشارع التركي ما زال كبيرا، وافادت استطلاعات الراي التي اجريت قبل اسبوع الى نسبة تأييد عالية لحزبه تصل الى خمسين في المئة، ومن المتوقع ان تنعكس هذه النسبة في الانتخابات البلدية التي ستجري في آذار (مارس) المقبل.
مشكلة اردوغان انه خلق بسياساته الخارجية العديد من الاعداء في الداخل، او بالاحرى استغل اعداؤه اخطائه الخارجية لتحريض الداخل ضده، ونحن نتحدث هنا عن اسرائيل والولايات ا لمتحدة على وجه الخصوص، بالاضافة الى النظام السوري بسبب تدخله بشكل شرس لصالح المعارضة الاسلامية المسلحة التي تقاتل لاسقاط النظام، والسلطات المصرية بسبب دعمه المتواصل لحركة الاخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي، وتعارض المملكة العربية السعودية ودول خليجية اخرى (الامارات) اردوغان للسبب نفسه ايضا.
الازمة الاخيرة اظهرت استقلالية القضاء التركي، والمؤسسة الامنية، وعمق جذور الديمقراطية التركية، وهذا انجاز يحسب ايضا للسيد اردوغان وحكومته، وهو الانجاز غير الموجود مطلقا في الدول العربية التي تعاديه وتعمل من اجل اسقاطه.
الغرب يريد او يتمنى ويعمل من اجل اسقاط حكومة اردوغان وحزبه، لانه جعل من تركيا القوة الاقتصادية رقم 17 على مستوى العالم، وكاد ان يجعل الناتج القومي التركي يصل الى الف مليار دولار (حاليا 800 مليار دولار)، وفضح عنصرية الاتحاد الاوروبي الذي اغلق ابوابه في وجه تركيا المسلمة رغم تحقيقها كل شروط العضوية، ولا ننسى الصدام مع اسرائيل والتضامن مع جهود وكسر الحصار على قطاع غزة.
لا نستبعد ان يتجاوز اردوغان هذه الازمة مثلما تجاوز ازمة حديقة غيزي، فرصيد الرجل الشعبي والاقتصادي كبير جدا يؤهله للاستمرار حتى الازمة الجديدة المقبلة، ولكن عليه اجراء مراجعة شاملة داخلية وخارجية، داخيلة تقوم على محاربة الفساد، وتعميق الوحدة الوطنية والمساواة في المواطنة بعيدا عن الطائفية، وخارجية اصلاح العلاقة مع الجيران، وسورية على وجه الخصوص، ويمكن ان يوفر له مؤتمر جنيف المقبل حول الازمة السورية احد المخارج في هذا الاطار.
اردوغان سينحني امام عاصفة الفساد هذه، وسيخرج منها مثلما خرج من ازمات سابقة، ولكن بجروح اعمق، وهيبة مشروخة، فقد اساء اختيار الاعداء مثلما اساء اختيار الاصدقاء ايضا.