دول الخليج “تكافئ” فرنسا بصفقات أسلحة واستثمارات لاقتناص دعم سياسي
أظهرت صفقة الثلاثة مليارات دولار، التي تعهدت بها المملكة العربية السعودية نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، لتمويل تجهيز الجيش اللبناني بما يحتاجه من أسلحة من جانب فرنسا، تحرك دول الخليج بشكل نشط عبر أموالها في التأثير على القرار السياسي في المنطقة، من خلال حلفاء دوليين، مثل باريس التي يرى مراقبون أنها باتت تحظى بما يصفونه بـ”مكافأت” خليجية، بعد مواقفها الداعمة لاتجاهات الخليجيين إزاء قضايا تتعلق بدول مثل سوريا .وأثبتت التجارب ووقائع التطورات السياسية منها وحتى العسكرية، وعلى مر التاريخ لعدة عقود خلت، أن العلاقات الدولية تكون دائماً مرهونة باستخدام “الاقتصاد” من أجل تحقيق أهداف “السياسة”، مهما كان نوعها وتوجهاتها، وما يتطلب ذلك من رصد أموال تكون أحياناً بلا حدود، لتمويل عمليات عسكرية، أو صفقات أسلحة متنوعة من شأنها أن تساهم في إحداث تغييرات “جيوبوليتيكية”، وتأتي ترجمة لمواقف سياسية تقتضيها مصالح الأطراف المعنية.وفي هذا المجال، تبرز حالياً أهمية العلاقات الدولية التي تتحكم بتطورات منطقة الشرق الأوسط، في ضوء تداعيات ثورات الربيع العربي، وخصوصاً الثورة السورية وما نتج عنها من صراع مصالح، إقليمياً ودولياً، وكذلك تطورات الثورة في مصر.وقد أكدت وزارة الخارجية في باريس، على لسان مارك باريتي المدير العام المساعد في دائرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مؤخرا، أن لفرنسا مصالح استراتيجية واقتصادية يجب أن تدافع عنها، وهي ممتدة من جبل طارق إلى مضيق هرمز، وأن عليها تأمين خطوط إمداداتها بالطاقة، وحماية السوق التي تمثل 8% من إجمالي صادراتها ونحو 25% من مبيعاتها الدفاعية.
غضب خليجي
لقد برزت الأزمة السورية وطريقة التعامل الأمريكي معها، كنقطة تحول في العلاقات الأمريكية العربية بعامة والأمريكية الخليجية بخاصة، لاسيما بعد أن تراجعت الولايات المتحدة عن اتخاذ قرار بحسم عسكري ضد نظام بشار الأسد وهو ما تؤيده السعودية ودول خليجية أخرى.كما أغضب دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية، حدوث تحسن في العلاقات بين واشنطن وطهران، وتتخوف من سرية المحادثات ونوعية التنازلات التي تقدمها واشنطن، والتي قد تكون على حساب مصالح الخليج.ويعزز من هذا التوجس الخليجي، أن التقارب الأمريكي الإيراني يأتي وسط “حالة من انعدام الثقة ” بين الطرفين الخليجي والأمريكي على خلفية الحرب في سوريا، خصوصاً وأن معظم هذه الدول التي تدعم المعارضة السورية، كانت تفضل تدخلا “عسكريا” حاسما ضد نظام بشار الأسد.وبدلا من أن ينفذ الرئيس الأمريكي باراك أوباما تهديده بالضربة التأديبية لهذا النظام عقوبة له على قتل نحو 1500 سوري خنقا بغاز “السارين” في أغسطس/آب الماضي، فقد ضرب حلفاءه من الدول العربية وخصوصا دول الخليج، باتفاقه النووي مع طهران.ويرى المراقبون الخليجيون أن ما حدث في سوريا يشكل أسوأ شهادة على التراجع الأخلاقي والاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية.
أسلحة وتجارة واستثمار
تواجه الدول العربية عامة، ودول مجلس التعاون الخليجي خاصة، تحديات وتهديدات جوهرية في إقليم مضطرب أمنياً، ويكمن الخلل في عدم قدرة هذه الدول على التصدي لأي تهديدات لأمنها بنفسها.ونظراً لأهمية دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية في التطورات السياسية والأمنية وصراع المصالح الدائر حولها، لا بد من الإشارة إلى أن أنظمة الحكم في هذه الدول، انتقلت تاريخياً بين علاقات حماية وصداقة بين شريكين رئيسيين بريطانيا أولاً، ثم الولايات المتحدة.وبما أن المملكة العربية السعودية أكبر دولة خليجية، وهي من أهم الحلفاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة منذ أكثر من 80 سنة، فقد راهن الفرنسيون على النتائج الايجابية التي سجلتها زيارة رئيسهم فرانسوا هولاند في أواخر ديسمبر/ كانون أول الماضي.وفي إطار العمل لخلق توازن في الخريطة الجيوسياسية بالشرق الأوسط، تبرز سلسلة صفقات أسلحة فرنسية مرتقبة، منها صفقة ضخمة للمملكة العربية السعودية تصل قيمتها الى نحو 20 مليار يورو.وتجري شركة “ثيلز″ عملاق الصناعات العسكرية الفرنسية مفاوضات مع السعودية حول صفقة يتوقع أن تبلغ قيمتها 3 مليارات دولار، وتتضمن ترقية شبكة أنظمة الدفاع الجوي وخصوصاً التي تحمي مواقع عسكرية وحكومية، مع العلم أن لشركة “ثيلز″ علاقات طويلة مع المملكة تعود الى عام 1980، حيث تشرف على تطوير صواريخ “شاهين” و “كروتيل” التي تستعملها المملكة في دفاعها الجوي.وتستعد بعض دول مجلس التعاون للتوجه نحو السلاح الفرنسي للحصول على صفقات متنوعة حسب حاجتها الدفاعية، وتتوقع مصادر دفاعية أن تشتري الإمارات نحو 60 طائرة “رفاييل” لتعزيز قواتها الجوية، مع العلم أن فرنسا تحتل المرتبة الثالثة في بيع الأسلحة للدول النامية بعد الولايات المتحدة وبريطانيا.وإضافة إلى صفقات الأسلحة، وفي إطار الدعم العربي للاقتصاد الفرنسي مكافأة لباريس على موقفها المؤيد والداعم للخليج، ستعتمد خريطة الطريق وسائل تعزيز حركة التبادل التجاري بين فرنسا ودول الخليج والبالغ حجمها نحو 19.67 مليار دولار سنوياً، مع العلم ان الميزان التجاري هو لصالح فرنسا حيث تبلغ صادراتها الى الخليج نحو 14.27 مليار دولار، مقابل 5.4 مليارات حجم وارداتها من دول مجلس التعاون.وتتجه المساعي بين الجانبين الى تشكيل مجلس أعمال خليجي فرنسي مشترك وتشكيل لجان ثنائية مشتركة لتطوير العلاقات الاقتصادية بينهما.اما بالنسبة للاستثمارات المشتركة، فقد تم الاتفاق على اعتماد خطة لدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في مختلف انواع الاستثمار، فضلاً عن قيام الشركات الفرنسية الكبيرة بتنفيذ مشاريع متنوعة في منطقة الخليج.وكان وفدا من رجال الأعمال يمثل نحو 60 شركة فرنسية، قد رافق الرئيس فرانسوا هولاند في زيارته الأخيرة إلى السعودية، وأجرى مباحثات مع رجال أعمال سعوديين وكذلك مع مؤسسات القطاع العام، تناولت إمكانية تنفيذ سلسلة مشاريع مشتركة وفق أجندة استثمارية كبيرة في المملكة.
تأمين المصالح الاقتصادية
ويراهن الفرنسيون على تأمين مصالحهم الاقتصادية جراء شراكتهم الاستراتيجية مع دول المنطقة، لا سيما وأن التقارب السياسي الحاصل بين باريس والعواصم الخليجية حول قضايا جيوسياسية حيوية مثل سوريا، من شأنه أن يوفر المزيد من صفقات الأسلحة الفرنسية لتلك الدول، فضلاً عن الاستفادة من استثمارات تجارية مشتركة تهدف إلى دعم الاقتصاد الفرنسي الذي لا يزال يعاني من سلبيات الأزمة الأوروبية.واستشهد بعض المراقبين بذلك، على أن كل عملية عسكرية خارجية جديدة تعتبر فرصة ذهبية للصناعات العسكرية الفرنسية لتعرض تكنولوجياتها الحديثة.وباعتراف أحد أعمدة الصناعات العسكرية الفرنسية، رئيس شركة “داسو” افياشن، اريك ترابية، ضمن شهادته أمام البرلمان الفرنسي، فإن العمليات العسكرية الفرنسية في ليبيا ومالي أعطت دفعاً جديداً لبرامج التسلح للجيش القطري والإماراتي لصالح الأسلحة الفرنسية، ومنها اقتناء طائرة “رفاييل” القتالية.لذلك من الطبيعي أن يستغل القطاع الصناعي العسكري في فرنسا، كما في دول أخرى مصدرة للسلاح، فرص اندلاع حرب في سوريا أو غيرها، من أجل عرض مهارات أسلحتهم وإقناع شركائهم باستيراد المزيد منها.كذلك، فإن حالة اللا حرب قد تكون مناسبة لتصدير السلاح، وهذا ما اثبتته فرنسا لشركائها وحلفائها في المنطقة، عندما استنفرت امكاناتها العسكرية من خلال التحضير الفعلي للعمليات في سوريا جوا وبحرا، بما يعطي باريس مصداقية كقوة عسكرية فاعلة في البحر المتوسط والشرق الأوسط، فضلاً عن وقفتها إلى جانب السعودية وقطر والإمارات بلا تردد، وأكيدها التزامها التام بقضاياهم، مما أعطاها لدى شركائها الخليجيين مصداقية عالية، وضعها في موقف الحليف الاستراتيجي الذي يمكن الوثوق به.وهكذا يكون التزام فرنسا المباشر في الدفاع عن مصالح حلفائها الخليجيين، هو التزام متعدد الأوجه بما في ذلك الالتزام الدفاعي والعسكري.
(الاناضول)