تتناول هذه الدراسة بالتقييم و التحليل العميق التجربة الانتقالية نحو إرساء الديمقراطية بتونس, و التي قد عرفت الكثير من العراقيل و التحديات. تجدد هذه المقالة قراءة و إعادة قراءة للوضع العام المساعد و المعرقل لبناء دولة ما بعد الثورة خاصة بعد النجاح النسبي المحقق بتبني ‘الدستور’ و تشكيل الحكومة الجديدة بقيادة رئيس الوزراء ‘المهدي جمعة’ التي تجد نفسها أمام نفس التحديات –الانقسام الإيديولوجي,الإرهاب,الهشاشة الاقتصادية, الإضرابات…-نحاول من خلال هذه المقالة إعطاء نظرة شاملة حول أهمية و صعوبة المرحلة الانتقالية رغم اتسامها, نوعا ما, بلا عنف و التعددية الحزبية و مجتمع مدني قويّ و أيضا جدال سياسي متحضر. يتمحور الهدف الأساسي الذي نعتقد انه من المهم التركيز عليه, في تكريس مفهوم الديمقراطية كثقافة و عقلية تسيّر الحياة اليومية و الروتينية للمواطن التونسي و ليس حصر الممارسة الديمقراطية في النظام السياسي فقط.
كلمات المفتاحية: الانتقال الديمقراطية, التحديات, تونس
إعادة قراءة للمسار الانتقالي التونسي
تونس و بعد صراع طويل و جدال حول السلطة و الشرعية إتمام الدستوراستطاعت
و تكوين الحكومة الجديدة بعد يومين بقيادة رئيس الوزراء السيد المهدي جمعة وسط فرح لنهاية الأزمة السياسية التي اندلعت بعد مقتل السياسي محمد البراهمي و تملل كبير من أقطاب المعارضة التي تتنبأ بفشل و عدم حيادية الحكومة الجديدة رغم انبثاقها من رحم الحوار الوطني و نيلها الثقة من نواب المجلس التأسيسي بأكثر من الثلثين. و أصبحت تونس على ما يبدو في مأمن من سيناريوهات العنف و الثورة المضادة بالمقارنة مع بلدان الربيع العربي الأخرى مثل مصر التي تبنت دستورا يكرس لعودة النظام العسكري على رأس السلطة بالإضافة إلى المخاطر التي تهددها للانحدار نحو الفوضى وسوريا التي تغرق في مستنقع الحرب الأهلية و التصفية الدموية و أيضا عجز الدولة في ليبيا أمام تنامي قوة و إرهاب الميليشيات. اعتبر الكثير من الأطراف في الداخل و الخارج أن الطريقة السلمية و البعيدة عن العنف أو الانقسام المنتهجة من طرف النخبة السياسية التونسية في حل المشاكل و تبني دستورا توافقيا و تزكية حكومة توافقية رغم الجدال الذي دار حولها في جلسة ماراتونية دامت أكثر من اثني عشر ساعة, نجاحا باهرا خطوة حقيقية نحو الحرية و ممارسة الديمقراطية. ولكن من الصعب إنكار أن الفترة الانتقالية الراهنة قد اتسمت بتعدد و تواتر مقاربات التحول الديمقراطي, الذي بدوره قد تسبب في زيادة الاحتقان بين جملة المشاركين في القرار السياسي من حكومة و معارضة و أيضا ممثلي المجتمع المدني و اخص بالذكر النقابات الشغيلة. فمنذ اندلاع التحرك الشعبي الرافض لمقولات الاستبداد و انتهاك حقوق الإنسان في 17 ديسمبر2011 و فرار الرئيس التونسي ‘بن علي’, لاحظ أن النخبة و الشعب التونسي يعتقدون آن الوطن قد صار ديمقراطيا و أن ما قد حقق (الثورة التونسية) كافي و أكثر مما كان يحلم به المتظاهرون. و بالفعل قد بدأت المجموعة المنتخبة في 23 أكتوبر بصياغة دستور جديد لوطن جديد يتسمّ بتكريس التعددية و حماية الحريات و الحقوق, بالإضافة إلى علوية القانون و المؤسسات على المصالح الفردية أو الحزبية مما دحض الشك إن الشعب التونسي الذي عايش لعقود طويلة نظاما استبداديا قد أصبحت الحرية حقيقة مطلقة في تاريخه.
و لكن في خضم أجواء الغبطة الشعبية و النظرة الايجابية لمستقبل تونس و الحياة السياسية ,بسبب هدا الانتصار المبدئي, فقد أصبح من الجدير التساؤل حول مدى استعداد النخبة السياسية و المواطن التونسي على مساعدة حكومة ‘المهدي جمعة’ على الأخذ بزمام الأمور من خلال تكريس هيبة الدولة و إجراء الانتخابات و خاصة آن هذه التشكيلة الحكومية المتأتية من توافق وطني. و لكن للأسف الجدال الحاصل حول التشكيلة الحكومية و الاتهامات الموجهة ضد بعض الوزراء بالولاء و الانتماء للمنظومة النوفمبرية و بعض الحساسيات السياسية الأخرى و المعارضة المتأهبة للهجوم و الاستنكار يكرس الاعتقاد آن التغيير الايجابي مستحيل دون الالتزام الحقيقي بالتعاون الجديٌ و الكليٌ مع هذه الحكومة. و خاصة انه من الجدير بالذكر أن تونس لازالت تعيش و تتخبط في نفس المشاكل و التحديات رغم تغيير الحكومات و صعوبة المرحلة الديمقراطية , مما يؤكد صعوبة و خطورة المرحلة الراهنة و ضرورة إعادة قراءة المسار الانتقالي ليس فقط لفهم الصعوبات التي تعرقل بناء دولة ما بعد الثورة بل أيضا من اجل التأكيد أن بناء دولة قوية و ديمقراطية يعتمد على تغلل مفهوم المواطنة في الممارسات اليومية للشعب التونسي.
1- حيثيات الثورة التونسية و ضبابية أجندا التغيير:
و لكن و بعد مرور أكثر من عام و نصف على انتخابات و الشروع في كتابة الدستور و بداية المسار الانتقالي, رجع على الساحة السياسية الداخلية التونسية و الدولية هاجس التساؤل حول الديمقراطية و مدى ملائمتها و تحققها في هذه الفترة الانتقالية المؤججة بالخلافات السياسية و الاختلافات الإيديولوجية و أيضا ضعف مؤسسات الدولة. و عاد أيضا من جديد الإسلام السياسي و من وراءه الإسلام إلى واجهة الأحداث إلى دائرة الشك و التساؤل حول نجاعته كقوة حزبية و شعبية و أكاديمية فاعلة بالمجتمع التونسي و محددة للخيارات السياسية. جعل هذا التذبذب و الاحتقان في الساحة السياسية التونسية عملية فهم إرهاصات الثورة و معايشتها من اكبر التحديات التي تواجه النخبة و الشعب معا.و إلى حد الساعة الراهنة و بالرغم من الاهتزازات التي يعيشها المسار الديمقراطي, فان اغلب المشاركين في صناعة القرار عجزوا عن بلورة أجندا واضحة تسهل الانتقال الديمقراطي و رفضوا بشكل متعنت التعاطي بشكل جديّ مع المشاكل و الأزمات المتراكمة على مر عقود الاستبداد.و يكمن هذا التذبذب و الارتجال المفرط فيه من طرف جملة الإطراف الفاعلة في الشأن السياسي إلى سوء فهم و تقدير للمرحلة الانتقالية,بحيث أنهم قد تناسوا أو على الأرجح يجهلون أن الانتقال يعني البناء المشترك من اجل تحقيق التغيير الشامل و النهائي من ممارسات الاستبداد و الفساد إلى مسار ديمقراطي يكرس لثقافة المواطنة و التشارك في اتخاذ القرارات و في جميع المستويات: اقتصادية, سياسية و الاجتماعية. اعتبر الكثير من السياسيين و الاكاديمين و المجتمع المدني أن المرحلة الانتقالية بتونس ليس فترة التمرس على الديمقراطي بل فترة الديمقراطية في كمالها. و الجدير بالذكر, أن مثل هذه المغالطات التي حصلت لدى النخبة التونسية تعود بالأساس إلى المراهنة المبالغ فيها على الاستقرار و الانسجام الاجتماعي الذي يميز المجتمع التونسي مما يهياه ليكون ديمقراطيا و بامتياز.و لكنهم اكتشفوا أن هذا الهدوء مجرد أكذوبة كرسها العهد السابق لعدة عقود ضمانا لبقائه.
كانت تونس و منذ الاستقلال, مثل معظم دول العالم الثالث و خاصة دول العالم الإسلامي, عرضة لتجارب سياسية و اقتصادية غير متلائمة مع منظومتها الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو المؤسساتية.ساهمت سياسة الارتجال و التسرع في بناء دولة الاستقلال في تفشي الفساد و انعدام الوعي السياسي ليس فقط لدى الشعب بل أيضا لدى النخبة التي كانت بدورها جزءا فاعلا في التهميش الممنهج و الفساد الإداري. و فيما يتعلق بمسالة الديمقراطية و التشدق بدولة المؤسسات, فقد اختزلت القوى الحاكمة في تونس خلال أكثر من خمس عقود بعد الاستقلال مسالة ‘الديمقراطية’ في هيمنة الحزب الواحد على المشاركة الشعبية في صناعة القرار و أيضا ترتيب السياسة الداخلية على خلفية المعادلة التالية: أن السياسة الفاعلة التي تكرس للسلم الاجتماعي يجب أن تبنى على تعميق الرأسمالية و التفرقة الاجتماعية لضمان انهماك جميع شرائح الشعب في البحث عن لقمة العيش. و قد سهل احتكار السلطة من ‘الحزب الدستوري’ بداية و ثم من ‘التجمع الدستوري الديمقراطي’ إلى ا لتشريع لنمو الفساد , نهب الدولة , تمعش العائلات المقربة من القصر و استعمال القوة ضد أصوات المعارضة مما زاد من انتهاك حقوق الإنسان بتهم الإرهاب و الإخلال بأمن الدولة. ربما جملة هذه الأسباب ما اخرج عدد من المواطنين خلال ثورة الياسمين احتجاجا و حنقا على تغلغل الفساد و ازدياد الفروق الاجتماعية بين مختلف أطياف الشعب.
و ساهم هذا الاستقطاب الأحادي للسلطة في خلق فجوة بين عموم الشعب و النخبة السياسية و الانسحاب الكامل للمواطنين و بعض الأصوات المعارضة من الحياة السياسية و أيضا تميزت فترة ما قبل الثورة بتجفيف منابع الإسلام في تونس و الانغماس الكلي في عملية التغريب للمجتمع بعلة التقدمية و دعم الحريات و الأهم ‘الإسلام فوبيا’. و استطاع الحزب الحاكم من خلال سياسة التهميش مكرسة في السياسات التعليمية و الثقافية و الاقتصادية و الدينية, التي قد أسلفنا ذكرها, التدخل في تحديد الخيارات الاقتصادية و الثقافية و الإيديولوجية لعامة الشعب و أيضا النخبة المثقفة و الماسكة لدواليب الدولة. و كانت تستمد سياسات التهميش شرعيتها من سيناريوهات واهية للديمقراطية مثل الانتخابات والدبلوماسية المنفتحة على الدول الغربية و المنظمات الدولية و المجتمع المدني الذي تميز بالتملق للعائلة المالكة و الحزب بطبيعة الحال و أيضا بجدر بالذكر معارضة ضعيفة أو في الأغلب ديكورية. و كانّ الحزب الحاكم كان يخشى على الشعب التونسي مأساة الوعي السياسي و مشاكل الممارسة الديمقراطية, فأراد تجنيبه العجز و عدم القدرة على التشارك السلمي في الحكم, كما أثبتت هذه المرحلة الانتقالية. و قد ساهمت النخبة في احتكار آليات الاضطهاد و الإقصاء ضد الخارجين عن التوجه العام للحزب و ضمان الحماية و الأمان إلى المنذوين تحته]. و في هذه المرحلة, لاحظنا تماهي بين مفهوم ‘الدولة’ و ‘النظام الحاكم’ بحيث انه أصبح من السهل على العائلة الحاكمة و بما في ذلك الأقارب و الموالين من أصحاب المناصب التحكم في منظومة الجباية و القضاء و الجهاز الأمني, الذي تم استغلاله في حماية المتنفذين في الحكم و ليس السهر على المصلحة العامة, و بالتالي يمكن القول أن النظام الحاكم قد استطاع احتواء الدولة بإحكامه السيطرة على منافذ السلطة .
2- المسار الديمقراطي و ارث دولة الفساد:
و من اجل ذلك و بعد نجاح ثورة الياسمين بهروب ‘بن علي’ إلى السعودية كثرت الدعوات إلى الانقضاض على منظومة الفساد و البيروقراطية , خاصة خلال الحملة الانتخابية للمرحلة الانتقالية. رفعت الأحزاب الرابحة في الحملة الانتخابية مثل حزب النهضة و حزب المؤتمر شعارات المحاسبة لكل القوى المتورطة من عمليات الفساد و التعذيب و الاضطهاد من ما بعد الاستقلال إلى حدود اندلاع الثورة التونسية كمحاولة لإضفاء الشرعية الثورية على أنفسهم و على توجهاتهم السياسية كحكام و صانعي القرار جدد في تونس منبثقين عن أول انتخابات شفافة و غير مزورة في تاريخ البلاد. و أيضا قد تبنت القوى الحاكمة الجديدة هذا التوجه خلال اللقاءات الإعلامية أو في خطابها السياسي لتوجيه رسائل واضحة لمناصريها و المناؤين من النظام السابق بمدى جديتها في إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس الديمقراطية و العدالة الاجتماعية و المساواة و أيضا المواطنة. وانحصر المزاج العام للشعارات و البرامج الانتخابية في جملة من الإصلاحات ,التي تهيأ للبعض أنها استعجالية و لا مجال للتراجع أو المساواة عليها, مثل مقاومة المركزية المبالغ فيها لمؤسسات الدولة و بالتالي ضرورة إشراك كل الجهات في اتخاذ القرارات الاقتصادية و التدخل في البرامج التنموية و أيضا القضاء التام على الرشوة التي تنخر الإدارة و العقلية التونسية بالإضافة إلى النداء بضرورة إصلاح المنظومة القضائية التي كانت في كثير من الأحيان متواطئة و مخترقة من طرف رموز الفساد في الحزب الحاكم لما قبل الثورة. ربما هذا ما جعل سقف التوقعات عالي بين جموع الشعب بخصوص محاربة الفساد الذي اعتبره الكثيرين الضمان الوحيد لتكريس علاقة ثقة بين الحاكم الجديد و المحكوم و تعزيز العلاقة الوثيقة التي استطاعت النخب السياسية المعارضة لحكم ‘بن علي’ بناءها مع المواطنين خلال أيام التحركات الشعبية في الثورة و حكومتي ‘الغنوشي’ و ‘السيبسي’. لكن و للأسف ما استطاعت أن تفعله السلطة الجديدة المنتخبة مؤقتا يتمثل في مجرد إصلاحات بسيطة و قد اعتبرت معظمها سطحية و ناقصة و عاجزة على فتح ملفات الفساد و القضاء على المنظومة بأكملها.
و في هذا الإطار, اعتقد قد أصبح من الجدير إعادة قراءة ‘سوء التصرف’ السياسي للفترة الانتقالية رغم جدية الوعود الانتخابية, حيث قد اجمع الملاحظون على أن مسار البناء الديمقراطي يشهد صعوبات و منزلقات, في كثير من الأحيان, نتيجة لعدم القدرة على كسب ثقة المجتمع- العامة و النخبة- في شرعية مؤسسات التشريعية و التنفيذية المؤقتة و فاعليتها في التأثير الايجابي و العميق للقطع مع التجارب أو الذكريات أو الممارسات اللصيقة بالنظام السلطوي و الاضطهادي السابق, التي لازالت تساهم بشكل كبير في خلق جو من انعدام الثقة و التشكيك في ‘نزاهة’ و ‘مصداقية’ العمل السياسي لدى طيف كبير من الرأي العام التونسي. و يشير المتخصصون في مجال التحول الديمقراطي بأن تأثير النخبة المتنفذة ‘ما قبل الثورة’ بالغ الأهمية في فترة ‘ما بعد الثورة’ , إذ أنهم يمسكون و يسيطرون على المفاصل الرئيسية للسلطة و لديهم قدرة عجيبة على التأقلم مع كل المتغيرات السياسية أو الإيديولوجية و التعايش الانتهازي مع ثورية المرحلة الانتقالية و بالتالي يصبح من المستحيل التأسيس لهذه المرحلة دونهم وتجعل منهم كل محاولة إقصاء أو عقاب خطرا حقيقيا لاستقرار النظام الجديد لما لديهم من نفوذ و شبكة علاقات تمنحهم القدرة على صناعة ‘الثورة المضادة’, و ربما هذا ما يحصل في تونس. كما أن سياسة الحكومات الانتقالية –ما بعد الانتخابات- قد تراخت في تشكيل لجان و صياغة قوانين و آليات ردعية داخل المؤسسات لمحاربة الفساد و المحسوبية و انعدام الشفافية, و لعل ما أدى إلى هذا التراخي يتمثل في ضعف الدولة التي تعترضها صعوبات في بسط نفوذها, بالإضافة إلى ذلك عدم امتلاكها للقوة الكافية لضمان الأمن و مجابهة خطر التهريب و دخول الأسلحة و الإرهاب.
لقد أدى اشتداد الصراع الإيديولوجي بين السياسيين منذ بداية كتابة الدستور حول مسالة الهوية و أسلامة أو علمانية الدولة إلى إغفال ماهية الديمقراطية التي يصبو إليها التونسيون والتي تتلاءم مع ظرفية الراهنة للمسار الديمقراطي و محدودية الثقافة السياسية للشعب. لقد أثارت نتائج الانتخابات حفيظة الشق العلماني –دعاة الحداثة- الذي استنكر نجاح الحركة الإسلامية ‘النهضة’ , مما أكد أن المشكلة في تونس بالأساس مسالة ‘استنكار الأخر’ , و هو الأمر الذي وضع و لازال تونس في تجاذبات عقيمة ليس حول نجاح التحول الديمقراطي في تونس بل أصبح الجدال حول من لديه أحقية ‘الانتماء’ إلى تونس. ولقد شكل هذا الإقصاء المتبادل بين الشقين إلى خلق جو سياسي و أكاديمي و شعبي و بطبيعة الحال إعلامي شديد التوتر متناسين أن تونس تجمع الجميع. و يتمثل الخطأ الذي وقع فيه معظم المتداخلين في الشأن السياسي,أنهم تصوروا أن ‘المواطنة الحقيقية’ تكمن في خرق القانون إلى درجة أن المعادلة أصبحت أن تحقيق الديمقراطية لا يكون إلا بالتضحية بالديمقراطية, خاصة أن المؤسسات الدستورية المنتخبة و الشرعية تتهرب من مسؤولياتها و تنزلق في مزايدات واهية مغلفة بمقولات الديمقراطية و التعددية الحزبية وهي في حقيقتها لا تتجاوز أن تكون تعبيرا عن الخوف و التخوين بين مختلف الإطراف والتلاهي في ثنائيات ليست من أولويات المرحلة, و هو الأمر الذي يؤكد فراغ النخبة و العامة من ثقافة المواطنة و الديمقراطية, حيث أثبتت جهلها بالديمقراطية التي لا تتعدى أن تكون حكم المؤسسات المدعوم بعلوية القانون و بطبيعة الحال استقلالية القضاء و الفصل بين السلطات و ضمان و احترام الحريات و الحقوق. و على هذا الأساس قوة الديمقراطية و تغلغلها في الفكر و الممارسة المجتمعية لا تكون بالانتخابات فقط, بل أيضا بالتنافس السلمي و المتحضر على السلطة. حيث أن ابرز ملامح نجاح التجربة الديمقراطية يتمثل بوجود شعب واعي و متمكن معرفيا من الخطوط العريضة للممارسة السياسية مثل مفاهيم المواطنة و علوية القانون و الانخراط الحزبي وحيادية المجتمع المدني لضمان عدم وقوعه في الاستقطاب الإيديولوجي, المغالطات الإعلامية, الممارسات التعسفية للحكومة أو محاولات المعارضة ضرب شرعية المؤسسات الدستورية و تعطيل عملها.
ولعل هذا التباعد السياسي بين الحكام و الشعب يعود بالأساس إلى حقيقة أثبتتها كل الثورات أن من الصعب جدا تحقيق مبادئ الديمقراطية على ارض الواقع بالإضافة إلى جملة التفسيرات التاريخية التي قد أسلفنا ذكرها خاصة في الفترات الانتقالية. و لقد حرص العديد من المتخصصين في التحول الديمقراطي أو المسار الانتقالي من حكم استبدادي إلى أخر ديمقراطي على التأكيد أن الأرضية المتينة لإنجاح المسارات الانتقالية يجب إن يتوفر على العديد من الظروف لضمان تحقق ‘ديمقراطية صحيحة’ و ليس مجرد إعادة صياغة لأنظمة استبدادية أو سلسلة من الانقلابات وإسقاط للحكومات.و ترجع مختلف مظاهر الفوضى و الجدال و أيضا العنف السياسي التي تميز تقريبا كل تحول ديمقراطيّ إلى أن الأنظمة الاستبدادية قد تمت الإطاحة بها من خلال تحركات شعبية غاضبة على شكل مظاهرات و اعتصامات وعصيان مدني و أيضا في كثير الأحيان مواجهات دامية مع النظام الحاكم.و لذلك يكون كسر حواجز الخوف والصمت اتجاه الاستبداد والديكتاتورية بداية الانخراط الشعبي في التحرك الثوري الذي يتميز بخطاب التعبئة والحماس الشديد لتحقيق المساواة والشغل للجميع و القضاء على القوى الرأسمالية المتغولة في قترة النظام الاستبدادي وفي نفس الوقت إشراك القوى الشعبية في صناعة القرار من خلال تقلد المناصب القيادية في فترة التحول الديمقراطي و أيضا محاولة بناء ديمقراطية في كمال مثالية مفهومها ‘التشارك الكل في الحكم’, مما يعني عدم احتكار السلطة من ثلة صغيرة متنفذة بل المشاركة الفعلية لأبناء الشعب في اتخاذ المبادرات و المشاركة في الحياة السياسية من خلال الانتخابات , المؤسسات الحكومة, الإدارة, المجتمع المدني و التواجد في كل مفاصل الدولة .
3- معوقات المسار الانتقالي في تونس: الديمقراطية ضرورة أو إكسسوار
1- بالرغم من المجهود الحثيث لدولة ‘المسار الانتقالي’ لبسط هيبتها و قوتها, إلا أن عدم قدرتها على استبدال النظام القائم على الفساد ‘المقنن’ و سقوطها في دائرة مفرغة اجبرها في الكثير من الأحيان مجاراة هذه المنظومة و اتخاذها كشّر لابد منه , وأصبح هذا التورط في المنظومة السابقة يظهر إصلاحات الحكومة لا تغدو أن تكون مجرد إستراتيجية نظرية خالية من ترتيبات سياسية و اقتصادية وثقافية هيكلية للدفع بالتحول الديمقراطي نحو المزيد من الشفافية و المصداقية. و يعتبر هذا الارتباك من سمات مسار ‘بناء الدولة’ الذي يتسم بالرغبة الشديدة في السلطة و المصلحة الحزبية و التخوين و التعبئة الشعبية, و لكن أتصور شخصيا أن الرغبة المحمومة من كل الفواعل السياسية في السيطرة على مقاليد السلطة السبب الرئيسي للتنازع و الإصرار على عدم التشارك في إنجاح المرحلة الانتقالية.
2- خلال الشهور الأولى للمسار الانتقالي, ازداد منسوب ‘العنف’ في البلاد التونسية و بكل أنواعه, من قطع للطرقات و العنف اللفظي إلى العنف السياسي و الإرهاب, الذي وضع الحكومة الانتقالية في التحدي الأكبر للحفاظ على سيادة الدولة. و كان التساؤل القائم و الذي لازال ليس كيف ستتم مقاومة العنف بل إلى أي حد يمكن للحكومة الانتقالية بقيادات إسلامية مقاومة تهديد العزل و التمرد على الشرعية من طرف المعارضة و جزء كبير من مكونات المجتمع المدني. و هو ما أنتج عمليا, ارتباك, و مثل العادة, حول بلورة صورة كاملة حول مقاصد الاغتيالات السياسية و عملية ذبح الجنود في الشعانبي و حول أنجع الاستراتيجيات للتعامل مع الإرهاب و مخالفاته من رعب و انعدام الأمن و بطبيعة الحال حول من يتحمل المسؤولية. و لذلك يكفي هنا أن نؤكد آن ظهور العنف السياسي بتونس كان شيء متوقعا من طرف صناع القرار و المحللين السياسيين لفترة ‘ما بعد الثورة’ و خاصة انه على الأغلب يفسر باعتباره نتاج و مظهر لتمويه ديني و عملية تكفير تمارسها الجماعات الإسلامية المتطرفة. فمما لاشك فيه, أن هذا العنف السياسي قد زاد من الانقسامات بين ‘المتمسكين’ بالشرعية الحكومية و ‘المنقلبين’ على المؤسسات الدستورية و ظهرت مجددا الاختلافات الإيديولوجية. و لكن ما يجعل ‘العنف’ مؤشر خطورة على الانتقال الديمقراطي, تحوله إلى ‘فيروس’ و خطر ينشر الفوضى و انعدام الثقة في صفوف الرأي العام الذين بطبيعتهم و في كثير من الأحيان ‘ببغاوات’ تعيدوا كلام الكثير من السياسيين أن غاية الحكومة الحالية ‘افغانة الدولة’. و أصبح من الجدير و صف المسار الانتقالي في تونس باعتباره صراع ‘انتماء’ حيث حرص النخبة و من ثم العامة على التشبث بمسالة الهوية و الإقصاء, الذي نتج عنه التقسيم الثنائي ‘نحن’ و ‘هم’ و أيضا الانزواء تحت شعارات سياسية مليئة بمشاعر الكراهية و الازدراء للأخر المختلف. و اعتقد أن الشعب التونسي قد سقط و بكل سهولة و سذاجة في الدائرة المفرغة للنرجسية و تضخيم الاختلافات الصغيرة بين الفرقاء السياسيين و الانغماس في متاهة التقديس للقيادات الحزبية و تحقير
3- اعتقد أن ما يعرقل المسار الديمقراطي أو على الأرجح بناء ‘دولة الثورة’ يتمثل في الغياب الصارخ لشخصية وطنية ذات حضور كاريزمي وخطاب سياسي مؤثر مع رؤية واضحة للمسار الانتقالي, ولديها القدرة على تقمص دور قيادي متميز في إطار الاحترام الكامل للمؤسسات السياسية و الدستورية و التقليل من ما يميز الفترات الانتقالية من تذبذب و ضبابية و ارتجالية في اتخاذ القرارات. بالتالي قد قلص غياب هذه الشخصية من هيبة الدولة و ثورية المرحلة الانتقالية, و خاصة أن الشعوب العربية قد تعودت على صورة ‘القائد’ الذي يسيّر الدولة كملك و ليس كمفكر أو قيادي ديمقراطي, و من الخطورة البالغة في الوطن العربي ‘انجاز’ ثورة دون وجود مثل هذه ‘الشخصية’ و وضع الشعب في تجربة ‘التشارك في الحكم’ دون تمكينهم , على الأقل, من ثقافة و عقلية التعايش الديمقراطي.
4- أصبح الانقسام الفكري و الإيديولوجي, الذي على ما يبدو قد استحسنه التونسيين من نخبة و عامة كتعبير عن -تقمصهم للدور الثوري -, داخل المجتمع التونسي ركيزة لممارسة حق الاختلاف إلى درجة الإقصاء, الذي اثر على المسار الديمقراطي ليصبح بالأساس صراع محموم على المناصب السياسية. و على الأرجح, قد أدى التنوع في الآراء والانتماءات السياسية أو الإيديولوجية -الايجابي أو السلبي- إلى خلق ‘تعددية’ متناحرة و فسفسطائية. و كان هذه التعددية الحزبية قد زادت من تعقيد ‘الحالة’ التونسية و قد ظهر جاليا آن أساس الاختلال في المسار الديمقراطي يكمن في انعدام “أخلاقيات المسؤولية” و سرعة الاستجابة للطلبات الاجتماعية المتزايدة و التحديات السياسية والاقتصادية رغم بيروقراطية القوانين و الإدارة التونسية و التعقيدات التقنية, و لكن و بذات الوقت لا يمكن أن ننكر آن الخصومات الحاصلة خلال هذه الفترة من الانتقال تلعب دورا كيرا في تكوين وعي سياسي و ثقافة الممارسة الديمقراطية لدى كل من النخبة و العامة, و مما لاشك فيه أنها تمهد لتكوين نظام سياسي ديمقراطي تشاركي. و يرى الكثير من المحللين السياسيين أن كل صراع بين النخبة يكون بالأساس ضمانا لتأسيس تقاليد تنظيمية داخل الأحزاب وتطوير أساليب التنافس و التعبئة الشعبية و استمالة الرأي العام خلال الفترة الانتقالية و من ثم خلال المرحلة الانتخابية
5- وجدت الحكومات المؤقتة للثورة نفسها في اختبار ‘دمقراطة’ الدولة, لكن الأهم من ذلك كله لزم عليها الاختيار إما محاربة المنظومة التقليدية لإدارة دواليب الدولة أو إعادة تكريسها. و لكن في هذا الإطار, قد تعددت النقاشات حول التغييرات التي يجب أن تشمل الدولة التونسية في خضم التحديات العديدة على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي و الأخذ بالشعب و مؤسسات الدولة من منظومة ‘الحكم’ إلى ‘الحوكمة’. و يعتبر هذا التوجه نحو عملية ‘إعادة بناء الدولة’
المراجع:
Bunce, Valerie . “Regional Differences in Democratization: The East versus the South.” Post-Soviet
Affairs 14, no. 3 (1998): 187-211.
Bunce, Valerie. “Comparative Democratization: Big and Bounded Generalizations.” Comparative
Political Studies 33, no. 6-7 (2000): 703-34.
الكاتب: سهام الدريسي
باحثة في الجامعة التونسية
تونس .0021697032022