لبرالية الحديثة عاشت كـ فكرة معزولة في منطقة الشرق العربي ، عاداها رجال الحكم والدكتاتوريات العربية ورجال الدين التقليدي بكل طوائفهم وبقي الإسلام السياسي يعيش حالة جفاء معها دون أن يكون له موقف واضح منها مبني على معلومة حقيقية .
(1) اللبرالية الماهية والطبيعة
الحديث قد يطول عن تاريخ اللبرالية والأسماء المنظرة للفكر اللبرالي ونظريات اللبرالية الحديثة لكن يمكن إجمال الفكرة اللبرالية التي تعني” الحرية والمساواة ” بالتالي :
اللبرالية السياسية :- تعتني بالحرية وتؤمن أن الإنسان ولد حر ويجب أن يكون له حق الحياة وحق التعبير عن الرأي وحق المشاركة في صناعة السياسة معتمدة في ذلك كله على دستورية الدولة والانتخابات الحرة والنزيهة وحقوق الإنسان والديمقراطية….. الخ .
اللبرالية الاقتصادية:- وتنقسم إلى المدرسة الكلاسيكية والتي تؤمن بـ نظرية السوق الحر وان الاقتصاد يصحح نفسه ومدرسة اللبرالية الاقتصادية الاجتماعية والتي حاولت أن تتجنب الآثار السلبية للبرالية الاقتصادية الكلاسيكية بعد أن ظهرت الطبقية كإفراز لسياسة السوق المفتوح ، تقوم اللبرالية الاجتماعية على المزج بين النظام الرأسمالي الحر والاشتراكي لتحقيق توازن اقتصادي وتخفيف أثار الطبقية الناتجة عن اللبرالية الكلاسيكية وهذه المدرسة متبعة في معظم الدول الحديثة وخاصة أمريكا من خلال فرض الضرائب الخاصة على كبار الأثرياء و رؤوس الأموال وتقديم تلك الأموال للطبقات الفقيرة بأسلوب مباشر أو غير مباشر كـ التعليم المجاني والصحة … الخ .
اللبرالية الفردية :- وتقوم على الإيمان بحرية الشخص المطلقة حريته في الاعتقاد واعتناق الأديان وجميع الممارسات الفردية حتى وصلت إلى حرية الميول الجنسي …. الخ ، ما دامت هذه الحرية لم تخالف القانون ولم تخرج عن الحدود المرسومة لها ولم تتعدى على النظام العام المتعارف به في تلك الدول وتم حماية تلك الحريات بموجب التشريعات القانونية .
(2) اللبرالية والدكتاتوريات
استطاعت الأنظمة المستبدة أن تستفيد من الإنتاج الفكري الغربي بما يحقق لها المزيد من السيطرة المطبقة على مقاليد الأمور في البلدان التي تحكمها بعد أن أعادت تحريف تلك اللبرالية بما يناسب مصالحها في الحكم .
في الوقت الذي حاربت تلك الأنظمة اللبرالية السياسية على أكثر من سبعة عقود وشوهت صورتها وجلبت في حربها ضدها رجال الدين والسياسة والمنتفعين والوصوليين .
تلقفت تلك الأنظمة المستبدة اللبرالية الاقتصادية الكلاسيكية وعملت بها بتطرف واستخدمت نفوذها السياسي وسخرت ذلك النفوذ في مصالحها الاقتصادية فنتج عن ذلك بيئة اقتصادية أنتجت ثورة الجياع أو ما عرف بثورات الربيع العربي .
أما اللبرالية الفردية تباينت مواقف الأنظمة المستبدة منها بما يخدم طبيعة تحالفها ومصالحها للمحافظة على السلطة والنفوذ الاقتصادي ، فظهر لدينا بعض الدول التي أطلق بها العنان للحريات الفردية ” وخاصة في الجانب الجنسي ” حتى وصل إلى حد مخالفة عادات الأمة وثقافتها الجمعية ، في حين أن أنظمة أخرى حاربت تلك الحريات تحت مبرر مخالفتها للشريعة الإسلامية واسترضاء لتلك الشرائح التي دعمت توجهها في محاربة اللبرالية السياسية ولمزيد من توثيق التحالفات والحفاظ على السلطة .
(3)الإسلام السياسي واللبرالية
من حيث المبدأ قد تتفق اللبرالية السياسية مع تعاليم الشريعة الإسلامية الغراء إلى حد كبير وان اختلفت في بعض المسميات والأشكال لكنهما ينسجمان في المبدأ العام .
أما اللبرالية الاقتصادية فقد تكون اللبرالية الاقتصادية الاجتماعية اقرب النظم الاقتصادية الحديثة إلى الشريعة الإسلامية لمراعاتها الملكية الفردية ومبدأ السوق الحر وحق الطبقات الفقيرة في العيش الكريم .
أما اللبرالية الفردية كـ حقوق المرأة وحق الاعتقاد والتدين وحق الميول الجنسي …. الخ فهذه ما يحتدم الجدل حولها في الفكر الإسلامي الحديث .
مسائل ومفردات متعددة تحتاج إلى دراسة واعية من أهل العلم الشرعي لكل مفردة على حدا وتحديد الموقف منها بشكل واضح وخاصة بعد ظهور بعض النظريات التي قد تعطي فرصة للتعايش ما بين اللبرالية الفردية والشريعة الإسلامية إذ أحسن الفقه الحديث تهذيب تلك اللبرالية وتطويعها والاستفادة منها بما يناسب ثقافة المجتمعات العربية وبيئاتهم الدينية .
الفكر الإسلامي رغم انه نادى باللبرالية السياسية والاقتصادية بصورها المعتدلة دون أن تكون في هذا الإطار الحديث المعروف حاليا إلا أنه عاش فترة انحطاط سياسي متأخرة جعله يعيش عقدة الأنا والنقص في آن واحد فرفض كل ما هو قادم من الغرب لأكثر من باعث دون وعي كامل بحقائق الأمور .
ولما سقطت جميع النظريات الفكرية التي جاءت تحكم الشعوب العربية في عهد ما بعد الاستعمار وبرز الإسلام السياسي كقوة يمكن أن تثق بها الشعوب كان لزاما على هذه القوة أن تعيد النظر في كثير مما رفضته في أوقات سابقة وان تعيد مواقفها في كثير مما أنتجته الحضارة الغربية في الجانب الفكري الإنساني والتي شملت كل الأنشطة الادمية .
يجب أن يعي التيار الإسلامي السياسي أن فكرة الرفض بالجملة لكل ما هو غير إنتاج الفكر الإسلامي اضر كثيرا بالمجتمعات العربية ومكن للدكتاتوريات وساهم في تأخر المجتمعات عن ركب الإنسانية .
كان من اللازم على تلك التيارات أن تعي وتسلم بان النظريات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أنتجها الفكر الإسلامي لم تعد تلبي التطور الإنساني الحديث وانه من الواجب تطويره والعمل على الاستفادة مما أنتجه العقل البشري الغربي والبناء على ما لدى الشعوب الإسلامية حتى يبقى هذا الفكر صالح لكل الأزمنة والبيئات .
الإسلام السياسي بحاجة حاليا إلى فقه استثنائي يخرج الأمة من حالة الجمود التي عاشها لقرون فقه يتمرد على القوالب التي وضع العلماء بها المجتمعات وساهمت في الحد من تطور الشعوب وتقدمها، الإسلام السياسي الحديث بحاجة للسير على ما سار عليه الأفغاني ومحمد عبده وابن باديس والقرضاوي و الغنوشي ولكن بأسلوب أكثر جرأة وأكثر انفتاحا حتى تلتحق هذه الأمة بالركب الإنساني وتجد لنفسها مكانا في مصاف الأمم الحديثة .
المحامي محمد العودات