لم يعد يخفى على أحد الكم الهائل من السطحيّة والسخافة التي تطبع حياة النجوم والمشاهير خاصّةً في عالمنا العربي . فقد اعتاد المشاهدون في الآونة الأخيرة على تصرّفات فنانين وإعلاميين وغيرهم من المشاهير أقل ما يُقال فيها ‘لا بتقدّم ولا بتأخّر’ . غير أن الناس الذين يبدو أنّهم فقدوا الأمل في عودة المشاهير إلى صوابهم ، تخلّوا عن دورهم الرقابي المحاسب وباتوا يتقبّلون كل ما يفعله هؤلاء دون ردّات فعل تُذكر.
وفي ظلّ تواطؤ إعلامي مخيف قد لا يكون مقصوداً ، إستورد مشاهيرنا فكرة سامية تُدعى الـ ‘Ice Bucket Challenge’ ، وهي فكرة إنطلقت في المجتمع الأميركي لدعم المصابين بمرض ‘لو غيريك’ الذي يؤثر على الخلايا العصبية الحركية بالمخ والحبل الشوكي ، وقد يؤدي إلى الوفاة ، وحوّلوها إلى مهزلة فارغة من أي مضمون أو هدف إلا المتعة الشخصيّة أو استعادة شهرة مفقودة .
تقوم فكرة الـ ‘ Ice Bucket Challenge’ أو ‘تحدي دلو الثلج’ على تحدّي المشاهير لبعضهم بسكب الماء المثلّج والمخلوط بمكعّبات الثلج على الرأس بعد تسمية شخصيّة أخرى للقيام بالأمر نفسه ، ومن ثمّ التبرّع بمبلغ من المال لصالح جمعية ‘ ASL’ المعنية بمكافحة مرض ‘لو غيريك’. أمّا في لبنان ، فقد وصلت الفكرة محرّفة ، منقوصة ولا تحمل أي معنى ، وامتلأت وسائل الإعلام كافّة بمقاطع فيديو لمشاهير يقومون بهذا التحدّي بطريقة تستفزّ كل عاقل على وجه الكرة الأرضيّة.
واللافت في فيديوهات مشاهيرنا ردّة الفعل المبالغ فيها والمصطنعة والتي وصفها البعض بـ’التمثيليّة’. فقد سكب الكثير منهم ماءً لم يظهر أي أثر للثلج فيه ، لتأتي ردّة فعلهم مفاجئة ، حيث بدأوا يصرخون ويقفزون في أرضهم علماً أن أول ردّة فعل على شيء مثلّج هي إحتباس الأنفاس لفترة وجيزة من الوقت وليس العكس . فمن أين جاء هؤلاء بهذه الطاقّة الغريبة؟
غير أنّ المزعج في الأمر أن المشاهير قاموا بهذا التحدّي لا لخدمة قضيّة إنسانيّة ، بل استفزّهم ‘سطل’ الثلج وصار لكل مشهور ‘سطل’ يسكبه على رأسه. وإذا كان أحد لا يناقش هؤلاء في أسلوب حياتهم المُترف ولا يسائلهم في كميّة أموالهم المكدّسة ، لكن إذا كانوا لا يستطيعون إستنباط فكرة لبنانيّة أو عربيّة ، فعلى الأقل أن يُجيّروا هذه الفكرة المستوردة لخدمة قضيّة إنسانيّة في لبنان أو العالم العربي ، وما أكثرها .
في هذا السياق ، اعتبر الكثير من روّاد مواقع التواصل الإجتماعي بسخط ، ان مشاهير العالم العربي إستفّزهم مرض نادر في الولايات المتّحدة فهبّوا لمحاربته ، لكن قضايا أخطر في الشرق الأوسط لم تحرّكهم ساكناً. ويأخذ الروّاد على هؤلاء عدم إكتراثهم التام بقضايا غزّة أو سوريا أو عرسال أو العسكريين المخطوفين أوملايين النازحين والمشرّدين والذين يعيشون دون خط الفقر … ويذهب البعض إلى تبسيط الأمر أكثر من ذلك : ‘حرّك مشاعرهم مرض لاعب البايسبول الأميركي بيت فراتيس ، ولم يرف لهم جفن لمرض المسعف سيمون بدوي أو النساء اللواتي قتلهنّ أزواجهّن أو حتّى الأطفال المصابين بالسرطان’.
لكن ما يُغضب أكثر هو عدم اكتراث النجوم ، الذين من المفترض أن يسخّروا أصواتهم في خدمة قضايا المجتمع ، بالشح المائي الذي يضرب لبنان والعالم العربي وحتّى أفريقيا ، ولم تؤثّر فيهم مشاهد أطفال ماتوا من العطش أو يشربون الماء الملوّث ، وقاموا بهدر الماء على متعتهم الشخصيّة في خطوة إستفزازيّة لم ولن تخدم إلا أنفسهم. هذا الأمر دفع بالعديدين وعلى رأسهم إبنة الفنان عاصي الحلاني ، ماريتا ، إلى إطلاق صرخة للحفاظ على الثروة المائيّة عبر فيديو نشرته تُظهر دلو ماء فارغ وتقول ‘ ما بقى في مي بلبنان’.كما إنتشر فيديو إستبدلت فيه مجموعة من الصحافيين الفلسطينيين الماء بالرمال والركام للتذكير بالمعاناة التي يمرّ بها سكّان قطاع غزّة تحديداً ، وقد انضم إلى الحملة الفنان الفلسطيني محمد عساف.
أما الصرخة الأهم ، فقد جاءت من أهل البيت حيث رفضت الفنانة نانسي عجرم القيام بهذا التحدّي معربةً في المقابل عن إستعدادها للتبرّع بمبلغ مالي. بدورها ، إنتقدت الإعلامية التونسية فرح بن رجب بشكل لاذع الـ ‘Ice Bucket Challenge’ بنسخته العربيّة ، حيث ظهرت في فيديو تقلّد التصرّفات غير المبرّرة واللامنطقيّة لزملائها بطريقة مضحكة ، واصفة من قام بهذا التحدي بـ’المساطيل’.
وفي هذا الإطار ، قد يناقش البعض أن هناك ظلم للمشاهير في تحميلهم مسؤوليّة هدر الماء ، في حين أن الهدر الأكبر مسؤول عنه المواطنون والدولة قائلين ‘شو وقفت علين’. غير أن هذا البعض ينسى أن المشاهير هم وجه عام إعلامي يؤثّر بشريحة كبرى من المجتمع وليس من حقّه أبداً وخاصّة أصحاب الأسماء الكبيرة واللامعة أن يرتكبوا هكذا خطأ الأقرب إلى الجريمة بحق الماء.
كل ما قيل وكل ما سيقال مستقبلاً ، لن يؤثّر على الأرجح في الكثير من المشاهير الذين يُظهرون يوماً بعد يوم إنفصالاً عن الواقع ، متربّعين على عروش مخمليّة ولا تعنيهم لا قضايا مجتمع أو وطن أو أمّة . وتدريجيّاً ، يحوّل بعض مشاهيرنا ثقافة مجتمعاتنا من الإنسانيّة والرحمة والرأفة إلى ثقافة ‘السطول’.
جاك أبي رميا