لا تأتلف الدول عسكريًا لقتال عدو غير واضح المعالم، ولا تستمرالتحالفات طالما كان أعضاؤها مختلفين جذريًا. يُحدد هدفُ الحلفِ -سياسيًا كان أو عسكريًا- كل تفاصيل استراتيجياته وتشكيلاته ومهامه، لكن تظل هناك قضية كبيرة قبل تحديد الهدف وهي تحديد المستهدف، أو العدو. تَشكل حلف الناتو لمواجهةِ عدو واضح ومحدد وهو الاتحاد السوفيتي وقتها، وهكذا تشكلت التحالفات الأمريكية الأوروبية لحرب أفغانستان بهدف القضاء على طالبان في 2002 والعراق بهدف القضاء على صدام في 2003 وأخيرًا التحالف الدولي للقضاء على تنظيم الدولة في 2014. تختلف استراتيجيات التعامل مع الأعداء باختلاف الظروف، لكن تظل التحالفات العسكرية تدور حول تعريف العدو، وهو ما يغيب عن مشروع القوة العربية المشتركة. هل العدو هو إيران، أم الشيعة؟ هل العدو هو الربيع العربي، أم هو الإرهاب؟ لا إجابة واضحة، ولا يبدو أنها ستتضح قريبًا.
الحقيقة الوحيدة التي تعكسها هذه الحيرة، هي “عدم الاتفاق” بين دول تحالف عاصفة الحزم التي تقودها السعودية لضرب الحوثيين وكلاء “إيران”، والتي تريد مصر تحويلها إلى قوات عربية مشتركة لتستخدمها في ضرب “الإرهابيين” إسلاميي ليبيا. غياب عمان عن القمة يسحب من التماسك الخليجي، وتحفظ العراق ولبنان والجزائر على مشروع القوة العربية يعكس توجسًا لامكان استخدامها ضد سوريا أو ليبيا. كذلك من غير المتوقع أن توافق كل من السعودية وقطر مصر في تحمسها للتدخل في ليبيا كجزء من مهام القوات العربية المشتركة، وبالمثل لن توافق مصر على التدخل في سوريا. طاوعت مصر المملكة العربية بمشاركتها الرمزية في عاصفة الحزم؛ أملًا بجر رجلها إلى تشكيل قوات مشتركة، لكن الأمر ليس بهذه البساطة.
سيكون مستحيلًا إقناع السعوديين والمصريين بالتعاون في التدخل في ليبيا وسوريا معًا كحل وسط؛ لذلك ستلجأ السعودية لباكستان وتركيا لاستكمال عاصفة الحزم في حال نكوص مصر، و ستستمر مصر في التعاون مع الإمارات لدعم حكومة الثني في ليبيا في حالة نكوص السعودية عن الدعم. ماذا تبقى من القوات العربية المشتركة إذن؟! في ظل وضع كهذا، ستستمر عاصفة الحزم بقيادة السعودية بغض النظر عن تحقيقها لأهدافها غير المُعَرَّفة، ولا يتوقع للقوات العربية المشتركة أن ترى النور بدون توافق، يبدو مستحيلًا، على تعريف العدو.
*** *** ***
من قد يكون العدو للقوة العربية المشتركة إذن، هل هو إيران؟ قد ترى ذلك المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات بشكل قاطع، لكن الإجماع على كون إيران عدوًا لن يتعدى تلك الدول. مثلًا، ترى قطر وعمان والإمارات إيران تهديدًا يجب التعامل معه بكافة الوسائل، لكنها ليست عدوًا. من غير المتوقع كذلك الحصول على تأييد لبنان والعراق ودول الوسط والغرب العربى على كون إيران عدوًا يجب الحشد ضده بشكل دائم. قد يكون العدو هو الإرهاب أو حتى الربيع العربي وشبابه المخذول. مثل هذا الخيار سترحب به مصر وسوريا وحكومة الثني في ليبيا، لكنه من غير المتوقع أيضًا أن تستقر باقي الدول على مثل هذا التعريف الغامض والسائل للعدو؛ فالإرهاب قد يكون ببساطة أي جهة تقبع في أي مكان، بينما تفرق دم الربيع العربي بين القبائل. هذا النقاش حول الحرب على الإرهاب يفترض إمكان قتاله بالوسائل التقليدية ويفترض أيضًا وجود سجل دولي ناجح في محاربته، وهو بالطبع غير متوفر بالنظر إلى التجربة الأمريكية في حربها الطويلة ضد الإرهاب منذ الحادي عشر من سبتمبر.
لا يمكن للعرب أن يتفقوا على العدو إذن. لكن لنفرض جدلًا أنهم قد اتفقوا على أي من إيران أو الإرهاب، فهل سيجدي إنشاء قوة عربية نظامية مشتركة في دحر ميليشيات غير نظامية مدربة من قبل الحرس الثوري الإيراني، أو من قبل تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة المتمرس في حرب العصابات؟ هنا تبرز مدى قدرة الجيوش العربية على تشكيل قوات موحدة مدربة على التعامل بطرق حرب العصابات، وهو ما فشلت في تحقيقة عبر محاولاتها مكافحة ما يسمى بالإرهاب على أراضيها، ناهيك عن التدخل في أراضي الغير.
هل تتوقع عزيزي القارئ، مثلًا، أن تتبع القوات المصرية أسلوبًا آخر في اليمن غير الذي ما زالت تتبعه بإصرار في سيناء على الرغم من نجاحة فقط في خلق بيئة مشجعة لتبني الفكر المتطرف عبر استهداف المدنيين والعقاب الجماعي والقتل خارج القانون؟ هل تتوقع أن تستطيع القوات الأردنية تحقيق ما عجزت عنه في موطنها؟ من المتوقع أن يكون هناك ترحيب يمني أو سوري أو ليبي، على سبيل المثال، بالقوات في بداية انتشارها، لكن بعد بدء ارتكابها للأخطاء كما في بلدانها هل تتوقع أن يكون اليمنيون أكثر صبرًا من المصريين على الانتهاكات؟ سريعًا سيتحول المدنيون، كما المسلحون، إلى أعداء للقوات العربية وننزلق جميعًا إلى منحدر مدمر آخر.
في غياب تحديد العدو، يصعب تحديد أهداف أو استراتيجيات القوات ولعل هذا ما جعل الفقرات الخاصة بالمشروع غامضة؛ بما يشي بأن إدراجها كان مجاملة لمصر لعقدها القمة. تضاربت التصريحات حول مسار العمل لبلورة “تصور” حول المشروع. فوفقًا لما رشح من تصورات، قبل نهاية أبريل الحالي يجب أن ينعقد اجتماع لرئاسات الأركان العربية لبحث المشروع والخروج بتصور، قبل نهاية يوليو، يبحث تشكيل القوات ومجلس قيادتها وآليات اتخاذ القرار فيها وعضويات الدول ومسؤولياتهم المالية والعسكرية -قضايا كثيرة ومستحيلة الحل في ظل عدم تحديد العدو. فعلى سبيل المثال، كيف يتم اتخاذ القرار داخل القوات، هل تكون اليد العليا لمن يدفع الأموال أم لمن يقاتل على الأرض، كيف يتم حسم الخيارات وترتيب الأولويات، ما هي حدود مسؤوليات كل دولة، وكيف يتم حساب تكاليف وأهمية المشاركات؟ كل هذه القضايا بالفعل معقدة وستزداد تعقيدًا بين أطراف تضرب أزمة ثقة حادة بين أطنابهم.
*** *** ***
بغض النظر عن العدو الذي سيتم الاستقرار عليه: إيران أو الإرهاب، فإنه يجدر التذكير قبل الحديث عن الحلول العسكرية -سواء في عاصفة الحزم أم القوة العربية المشتركة- بأن اللجوء للقوة هو لتعديل ميزان قوة مختل بغرض العودة إلى العملية السياسية. بهذا قد يكون من الأجدى للعرب أن يبحثوا عن الجذور السياسية والاقتصادية للمشكلات الحالية ويحددوا مقدار وكيفية مساهمة الحلول العسكرية في اجتثاثها، لا في تأجيجها. حري بالعرب أن يهتموا بتوجيه مجلس الوحدة الاقتصادية العربية للنظر في حل مشكلة “بطالة الشباب” المرتفعة في كل الدول التي يخططون للتدخل فيها لمكافحة “الإرهاب” بالتوازي مع جهودهم لإحياء اتفاقات الدفاع المشترك. إن تعزيز الاستثمارات والبنية التحتية لليمن وليبيا وسوريا والعراق ولبنان لا بديل عنه على المدى الطويل للاستقرار في هذه الدول، في حين أن الحلول العسكرية المجردة لن تنجح بدون مؤسسات سياسية تمثل الجميع ونجاحات اقتصادية توفر الوظائف للجميع.
إن الانخراط في مواجهات مسلحة مع الشيعة أو حلفائهم في المنطقة سيلقيهم تدريجيًا في حضن إيران، وكذلك فإن عدم التمييز بين التطلعات المشروعة للمشاركة السياسية وتجاهل المظالم الاقتصادية والمادية للشعوب وخلطلها بالإرهاب قد يحولهم لإرهابيين بالفعل، وهو ما سيكون نتيجة حتمية للاعتماد على الحلول العسكرية منفردة؛ لذلك، فإن رعاية حلول سياسية للمشكلات الحالية هو الحل الأمثل لكسب المعركة على المدى الطويل. وإذا كانت هناك من حاجة لحلول عسكرية، فلن تكون عن طريق القصف الجوي الذي يسقط ضحايا مدنيين أو حتى التدخلات البرية التقليدية التي توسع نطاق المواجهات بشكل غير محدد؛ بل عن طريق قوات خاصة مدربة على حرب العصابات تقوم بتنفيذ مهام نوعية، بالإضافة إلى تسليح وتدريب ميليشيات محلية للدفاع المدني عن المناطق. هذه القوات تحتاج إلى غطاء سياسي يوفره دعم السكان في مناطق التدخل، وهو لن يكون بدون دعم تنموي لخلق الوظائف وتأهيل البنية التحتية.
عبدالله عرفان
(التقرير)