زيارة خاصة
بقلم سهام البيايضة
وقف أحمد وصالح أمام مسجد القرية ,استعداداًّ لصلاة الجمعة, كعادتهم في مثل هذا الوقت والمكان, وقد ارتدى كل منهم ثوبه الأبيض,كحمامتين حطتا فوق روضة من الرياض الجميلة, وقد ظهرت على محياهما , سماحة الخِلقة والأخلاق ,تفوح منهم رائحة النظافة والعطر, تبجيلا لله تعالى, واقتداء بسيرة رسوله الكريم ,عليه افضل الصلاة والتسليم .
يسود المكان,كالعادة,هدوء وسكينة,اعتادها سكان المنطقة من المصلين والمسافرين الذين يقفون على جانب الطريق لتأدية شعائرصلاة الجمعة .
صوت محرك سيارة (بك اب دبل كبين) ,قطع السكينة ,وعفر التراب على الرؤوس التي لا تزال نديه, وهي تسارع في خطواتها لتكسب أجر الصلاة وحضور الجماعة.
صالح متمتما: الله لا يجيب الغلا!!” غير مرحب بالقادم .
احمد بهدوء:وحد الله يا صالح,اليوم جمعة!
أمام المسجد وبجانب احدى السيارات الواقفة على جانب الشارع ,وقف (البك اب دبل كبين), متكرماً, بترك مكان ضيق من الشارع, يكاد يتسع لمرور سيارة صغيرة, وبحركة سريعة فتح السائق الباب, ومن خلف الغبار الذي ملأ المكان ,ظهرت أقدامه على الارض, وقد انتعل حذاء ترابي اللون, ذو ساق طويلة ترتفع حتى منتصف ساقه, و نعل عالِ, يرفعه فوق الارض,على ارتفاع لا يقل عن سبعة سنتيمترات, وقد ارتدى بنطال عسكري دس حوافه السفلية في ساق الحذاء .
منظره يوحي , بانه على جاهزية عالية لمهمة عظيمة !, وربما خطيرة ايضا !. …مهمة خاصة له وحده!
بحركة سريعة فتح السائق الباب الخلفي, وتناول منها بندقية ” خرطوش” طويلة حملها من كعبها السفلي ووضع فوهتها على كتفه , متجها الى ساحة الجامع,يهز اكتافه ذات اليمين وذات الشمال وهو يسير متعاليا على الجميع.
من بين الجموع المنتشرة حول الجامع , صرخ طفل صغير :”ابو خرطوووششش !!”.
لم يلتفت حتى لمعرفة مصدر الصوت ,واستمر في مسيره متوجها قاصدا الشابين ,
لقد اعتاد على سماع لقبه هذا من الناس ,فهو نادرا ما يترك بندقيته ,يحملها معه اينما ذهب,حتى اصبح من الصعب ان يراه احد بدونها .
لم يكن وجوده يعني شيء لاحد من المتواجدين حول الجامع ,معظم ابناء القرية, أشاحوا نظرهم عنه ,متعوذين من اعوان الشيطان.
محاولته الدائمة في ان تكون له الصدارة , بإنكار وجود الاخرين,بغض النظر عن اعمارهم او مستواهم العلمي او الاجتماعي, جعله يعيش في عالم فوقي مغلق, يجتر به أفكاره الخاصة ,يجعل كل ما هو عظيم من حقه, وكل ما يملكه الأخرين تافه ,لا قيمة له,لا بل يتعدى كل القيم والمباديء ليثبت دائما انه على حق وأن الاخرين غير قادرين على فهم أنفسهم وانهم يعانون من الجهل وقصور التفكير ويحتاجون الى وصاية ,لهذا لا بد من الابقاء على مراقبتهم , واستخدام كافة وسائل الردع,حتى لا يتجرأون على رفع رؤوسهم, ,فهو موجود في كل مكان وفي كل المناسبات .يتصدر الاحتفالات الرسمية ,والغير رسمية .موجود وحاضر,وقد تكفل بعمليات تقويم وتهذيب الناس حسب معاييره, وضبطهم ,وتقديم المعلومات عنهم.كلما سنحت له الفرصة ,او وقع احدهم فريسة افكاره ,وشباك صيده.
اقترب ,ابو خرطوش من احمد وصالح ,وبدون سلام أو تحية بادرهما معلقا:”والله ما عرفتكوا..شو؟ متحممين؟ وحاطين عطر كمان؟”
رد أحمد وقد” لكز” صالح بذراعة يمنعه من الاجابة:”وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته”.
بدأ صالح يتململ, واحمد متشبث بذراعة يمنعه من التعليق, و أبو خرطوش يلوح بكعب بندقيته ,التي ركزها على الارض ومسك بفوهتها وهو يحركها امام الجميع غير آبه لتجاهلهم مستمتعا بوقع تأثيره المستفز على صالح:” سمعت نجحتوا في التوجيهي..والله بطلعلكوا ..عيال آخر زمن!!
أحمد بكل هدوء وصبر:”سمعنا إنك إمتحنت للمرة الثالثه..طمنا عنك؟؟”
أبو خرطوش وهو يرمق صالح متحديا :لا لا.. أنا على مهلي..مش مستعجل مثلكوا….وحظراتكوا على شو ناويين تدرسوا؟؟
لم يستطع أحمد أن يمنع صالح من الإجابة :أنا طلعلي هندسة ,وأحمد الكلية العسكريه في جامعة مؤتة..وإنت.. شو ناويي تحمل شهادة,غير الخرطوش؟؟
أعاد أبو خرطوش بندقيته على كتفه, وقد رمق الصديقان بنظرة إستعلاء ,تاركا المكان وهو يقهقه :”بتشوفوا النتيجة..لا تستعجلوا …عيال اخر زمان!!!
شد أحمد قبضته على صالح, الذي حاول التفلت منه وهو يصك على اسنانه من الغضب :ال….شايفنا لساتنا عيال؟ …اتركني يا رجل ..خليني أكسر إسنانه..!!
احمد وهو يمنعه مهدئا له:”اتركه .. شو بدك فيه..بكره بحسبوا علينا زلمه!!
انتهت عطلة نهاية الاسبوع, وموعد الالتحاق بالكلية العسكرية بعد يومين ,وقف صالح أمام سريره, الذي وضع فوقه حقيبته التي ملأها بملابسه وحاجاته, استعداداً, لرحلة الفراق عن أهله, التي ستمتد لأكثر من شهر, تدريبات عسكرية ,ولياقة بدنيه ستؤهلهم ليكونوا قادة في مواقع العمل.
فرحه ,سعيده بضابط المستقبل ,وقفت ام صالح توضب أغراضه ,وهي مزهوة به ,تطلق الزغاريد , وتضمه إلى صدرها ,تغني قصائد” الهيجنه” و”الشروقي” فرحا به ,ولوعة على فراقه , بحنوها الذي تغدقه عليه ,حتى بعد ان أصبح رجلا شابا ,يملأ حياتها ويزيل ثقل الهموم عن صدرها:
“نزلوا على البستان يا عنيد يا يابه .. وابنيي معهم
كل الشباب انجوم يا عنييد يا يابه ..وصالح قمرهم”
الساعة تجاوزت الحادية عشرة ,ولا زالت الفرحة الممزوجة بالدمع قائمة ,أطالت السهر وأبعدت النوم .
لحظة صمت ,لفت المكان وهم يستمعون إلى طرق سريع على الباب الخارجي ,لجم الفرحة واسكن الاصوات حول صالح.
الام وقد تملكها الفزع:”يا ساتر يا رب!!مين يا ترى في هذا الوقت المتاخر؟؟”
حاول صالح ان يهديء من روع أمه:”على مهلك يا أمي ..أنا سافتح الباب”
توجه صالح الى الباب الخارجي ,وقبل أن يفتح الباب صرخ بصوته:”مين ؟؟”
رد صوت من خلف الباب :افتح الباب يا صالح.. أنا أحمد.
وقف صالح خلف الباب, وقد تملكه القلق على صديق عمره .. وتلاطمت في راسه امواج الظنون والخوف :يكفينا شرك . ..وشو جابك بهالليل؟
ظهر أحمد بهدوءه المعهود:”مساء الخير..اعرفك.. الضابط عبدالله!!
صالح متجاهلا والدته التي تلح عليه ,تريد معرفة هوية الطارق وماذا يريد في هذه الساعة المتأخرة من الليل:”أهلا وسهلا ..تفضلوا”
أحمد :”لا داعي لنتفضل..تعال.. انا وانت مطلوبين للتحقيق!!
_ “التحقيق في شو؟؟ خير ان شاء الله.؟؟
سقطت أمه مغشيا عليها من هول الصدمة, صرخ صالح بأعلى صوته على أخواته ,وهو يحاول أن يمسك بأمه ليتفادى إرتطامها بالارض,فزع من في البيت على صوت الجرس وصراخ صالح
إقترب الضابط عبدالله من اهل البيت, يريد طمأنتهم قبل أن يترك المكان:”لا داعي للقلق يا جماعة الخير ..سلامتها الحجة..الف سلامة!!
اخترق الشابين جموع الاهل والاقارب الذين فزعوا في عتمة الليل لمعرفة سبب زيارة الشرطة لبيت ابو صالح,وقد وقف ابو احمد واخوته بجانب السيارة, وقد تملكتهم الحيرة والقلق على ابنائهم الشباب.
جلس صالح واحمد متقابلين على كرسيين أمام مكتب المحقق .
صالح وقد تطاير شرر الغضب من عيونه:”شايف شو عمل فينا ال…!!! بس لو تركتني عليه,,كان دخلت السجن بسبب محرز.. وريحت الناس منه!!
فتح المحقق باب المكتب ,دخل بكل هدوء وجلس خلف مكتبه’ وهو يحمل ملف أزرق اللون ,وضعه أمامه ,ثم نظر الى الشابين ,دون أن يكلمهما للحظات, وقد أمعن التفكير بهما,هم صالح بالحديث ,لكن احمد ضربه بقدمه ليسكته,وليذكره أنه في مكتب رسمي.
المحقق :”في إخبارية خطيره عنكم شباب!! ,تقول أنكم منتسبين لجماعات إرهابية متطرفة, لها إرتباطات خارجية مع أعداء الوطن…هذا الملخصالمهم …وهناك اشياء اخرى تتعلق بأخلاقياتكم..تتطلب تحويلكم لشرطة الآداب!
تسمر أحمد وصالح في مكانهما وقد تجمد الدم في عروقهما ,ينظران الى المحقق تارة والى بعضهما تارة أخرى,غير قادرين على الكلام .
تململ صالح في مكانه وقد احمر وجهه حتى وصل الغضب الى أذنيه اللتين أحمرتا,على جانب رأسه ,موجها الحديث الى احمد:”مش قلتلك اكسر راسه واريح الناس من شره؟؟..شوف سكوتنا عنه وين جابنا, ابن…..!!!
زجر المحقق صالح , مذكرا إياه انه في مكتب رسمي .عندها تماسك أحمد محافظاً على هدوءه سائلاً المحقق :”شو في ..سيدي؟..انا وصديقي صالح لم نفهم قصدك”
المحقق:”تقول الإخباريه انكما دائما في الجامع ,وتجتمعان بجماعات تاتي للإقامة في مسجدكم الكبير على الطريق العام ,وتزودوهم بالحاجيات والطعام’ وتقومون على خدمتهم وحضور حلقاتهم الدينية!!
احمد:”سيدي ..كلامك بخصوص الجامع صحيح ..فنحن شباب لا نجد مكان نجتمع فيه افضل من الجامع ,اما الجماعات التي تاتي إلى جامعنا الكبير فهم من جماعات الدعوة,وعابري سبيل ومعظمهم من ابناء الوطن,يقدمون خدمة الوعظ والارشاد لاهالي المنطقة ,أما ما يتعلق بتزويدهم بالطعام فهم بجيرتنا ..سيدي ..ضيوف الرحمن ,علينا واجب القيام بهم واكرامهم ..اذا كانت هذه جريمة امن دولة, فعليك ان تعتقل جميع اهل القرية “
ابتسم المحقق وقد ركز نظره في احمد قائلا: منت قليل يا احمد!!على كل حال.. لا داعي لإعتقال احد”
ساد المكان صمت خفف من توتر الشابين, بعد ان شاهدا ابتسامة المحقق,الذي نهض من خلف مكتبه متوجها الى الشابين,الذين وقفا امامه احتراما له ولمكانته ,وقد مد يده مصافحا :”مبروك احمد الكليه العسكرية ,مبروك صالح كلية الهندسة ,بالتوفيق ..والانتباه..هل وصلتكم رسالتي؟؟”
اجاب صالح وقد انفرجت أساريره :”نعم سيدي ..نعم سيدي ..وصلت وبوضوح..شكرا .سيدي”
احمد وقد شد بيده على ذراع المحقق:”سيدي ..سنكون دائما عند حسن ظنكم ….شكرا سيدي!!
نادى المحقق الضابط عبدالله ,الذي دخل وهو يبتسم للشابين.:”انا قلتلكم لا داعي للخوف ..كانت زيارة خاصة.
المحقق مودعا الشابين: ستتعرضون في حياتكم للكثير من المواقف الصعبة ,التي تحتاج منكم الى رجولة وصبر.”
صالح يريد ان يسال بفضول:”لكن سيدي الاخبارية….؟؟
قاطعه المحقق:..مفهوم مفهوم !..اخي عبدالله ..مثل ما جبتهم من بيوتهم رجعهم !”
عبدالله :”حاضر سيدي!!
وقف صالح واحمد على الطريق في انتظار باص القرية ,ليقلهما,كل الى غايته ومقصده ..وعلى المقعد الطويل قرب الزجاج الخلفي جلس الصديقان ,بحماس وأمل كبيرين.
تباطأت سرعة الباص وهو يحاول أن يتجاوز المركبة التي وقفت على يمين الشارع, دون اي مراعاة لحق البلاد او العباد, مما اضطر السائق,لترك الشارع والمسير فوق تراب الرصيف الجانبي, تفاديا لصدمها من الجانب ,وعندما أعاد السائق الباص فوق الشارع من جديد ,نظر الشابان خلفهما ,.كان أبو خرطوش يقف أمام (البك اب دبل كمين) وقد اثنى ساقه اليسار الى الخلف مستندا على مقدمة (البك اب) يحمل خرطوشه ,كعادته.
علق احد الركاب :”يا صبَاح يا فتَاح ,على هالصبح..على شو ساري ابو خرطووش؟؟
رد آخر متهكما:”بدَور,على صيده ..مثل عادته!!
جلس احمد وصالح يراقبان مشهد ابو خرطوش وهو يبتعد خلفهما,حتى اختفى المشهد متواريا خلف البيوت والاشجار,عندها ,اعتدل كل منهما في جلسته وقد تعلق نظرهما في الافق الممتد الى الامام..كانت خيوط الشمس لا تزال ترسل اشعتها على الطريق الممتد امامهما وقد انجلت معالم مشوارهما..
لم تنتهي القصة .. أبو خرطوش في كل مكان….سهام