كباب وكنافة
بقلم: سهام البيايضة
انتظرت “مها” صديقة عمرها ” لمياء”, وهي توقف سيارتها بجانب احد الأرصفة التي اصطفت بجانبها سيارات, ساكني الحي المنعمين تحت البيوت البيضاء , والهدوء الذي لف المكان .
تابعت “مها” خطوات صديقتها وهي متجه إليها, فهي زالت صغيرة بالحجم كما كانت دائما, ومن زمن بعيد, لن تبوحا به, لسيدات المجتمع اللواتي اجتمعن, ليتباحثن في شؤون المرأة وحقوقها, في احد البيوت الممتدة فوق الأرصفة المزدانة بالأشجار, والزهور المختلفة أشكالها وألوانها.فهناك أشياء كثيرة, بينهما.. ليست للبوح.
عشرون عاما, مضت, كانت تحمل الكثير من أحداث ومواقف عدت, وانتهت, تخللها أمور اعتيادية, من البيت والأولاد والزوج والعمل, لا تختلف, عن أي قصة تحملها أي امرأة أخرى من هذا الجيل.
عندما اقتربت لمياء ,أخذت مها نفس عميق,خرج من صدرها زفيراً حاراً, وكأنها تعاتب الزمن الذي ترك خطوط أيامه وسهره ,على صفحات الوجوه ,يرسم تقاطيع العمر المختلفة أطواره ومراحله.
البسيط المختلف, والواضح جدا, هو ذلك الشال الحريري الأحمر الذي وضعته لمياء فوق رأسها, ظهرت من تحته أقراطها الذهبية بجانب سمرة وجهها ذو الملامح البدوية الناعمة .نعومة نسمات العبير في صباحيات الصحراء الغافية في الأفق.
لم تكن أحضانهما كافية لتعبر, عن مدى الشوق لهذا اللقاء, الغير عادي, بعد هذه السنين.
داخل القاعة الكبيرة والأنيقة, تجاوزتا, حدود اللياقة وأدب الزيارات وهما مشغولتان بالحديث والسؤال مع بعضهما البعض, واستحضار الذكريات بشوق كبير, وما فعلته الأيام, وما حل بهما, وأخبار الأزواج والأولاد والعمل..وآخر النشاطات الاجتماعية.و,. .و كثيرة هي الأشياء التي تتسارع لتأخذ صدارة الحديث, حتى بدتا كطفلتين عابثتين في اجتماع عجائز.
لاحظت السيدات المنتشرات حول القاعة الكبيرة, ضحكاتهما وتعليقاتهما التي جلبت الانتباه, وهما يتذكران أيام الشقاوة ومقالب الصبا, حتى وصلتا إلى الندبة الطويلة التي لا تزال تمتد عبر ساقها علامة فارقة, لها تاريخ وحدث لا ينسى.
أسبوعان وتبدأ امتحانات الثانوية العامة, عندما قررت طالبات التوجيهي, الإعداد لحفل تخريج, يليق بالمدرسة ومعلماتها, ومديرتها التي كانت من أهم أسباب الاحتفال عند الطالبات. واحتفالهن, بعدم رؤيتها بعد اليوم.فلا اشد من حواء على حواء عندما تقصد الأذى والألم.
تأخرت لمياء ,وبقيت صديقتها مها تنتظرعلى باب قاعة الاحتفال , قلقة على صديقتها وقد امتدت ظنونها .حتى بلغت ابعد الألم وأقصى الحدث.
ظهرت لمياء من باب الممر الطويل وهي ,تجر ساقها اليسرى وقد لفتها بضمادة بيضاء أحاطتها بلاصق ابيض سميك بقيت آثاره ملتصقة برجلها حتى انتهائها من الامتحانات .
صرخت, مها من بعيد- كعادتها, فهي دائمة الصراخ ولأقل حدث – حتى ضج الممر بصدى صوتها:وينك يا مجنونة…الله يوخذك !!..شو عملتي بحالك.؟؟
بين الضحكة والدمعة مسكت بيدها وتوجهتا لقاعة الاحتفال, ومها تعدها بان تكيل لها الصاع صاعين نتيجة القلق والخوف الذي تملكها بسببها.
لم تكن حياة لمياء سهلة كباقي البنات ولم تكن عائلتها بعادية كباقي البشر ,فاليتم خيم على حياتها وهي لا زالت صغيرة ,في بيتهم المتواضع على أطراف المدينة ,تحاول والدتها أن توفر لهم سبل الحياة ,وهي ترعى حقول القمح مع أولادها الكبار, فوق الأرض التي تركها الأب للأسرة,يملكون فوق مساحاتها الممتدة قطيع من الأغنام والماعز ,يحميها كلب كبير أطلقت لمياء عليه اسم كلونه ,(أشهب) .اعتادت لمياء وصديقتها مها,أن تطاردانه محاولات, استثارة سكونه, وهو يحاول اخذ قسط من النوم أمام القطيع ,فكان يتسمر في مكانه,لا يتجاوب مع عبثهما, وكأنه يستغرب تصرفاتهما الصبيانية هذه ,وجدواها ,محاولا الإبقاء على صورته الرزينة بين الأغنام التي تتجمع حول بعضها البعض , فزعه ,مضطربة من ركضهما وصوت وضحكاتهما وهما يمرحان حولها.تلاحقهما (ست الحسن ) ماعز لمياء المدلَلة ,التي تتبعها أينما ذهبت تحاول أن تلتصق بها و تشمها,باحثة عن بعض الأعشاب التي كانت لمياء تخصها بها ,ومها تصرخ بأعلى صوتها – كعادتها – عندما تحاول (ست الحسن) التقرب منها وقد تدلت لحيتها أسفل وجهها .
أمام” الحوش” الكبير, امتدت المصطبة العالية, التي تحتضن شروق الشمس في الصباح ويلفها ظل البيت بعد العصر, ترشها الأم الأرملة , أيام الصيف بالماء وتبردها, وتروي حوض النعناع وشجرة الورد المحاطة بسلك شائك حتى لا تقترب منها الأغنام أو العنزة الشقية”ست الحسن”.
فوق المصطبة , كانت استراحة العائلة ومكان استقبال الضيوف في أيام الصيف بعد العصر و”التعاليل” التي تمتد أحيانا إلى ساعات متأخرة بعد منتصف الليل.ومكان جلوس لمياء وصديقتها مها , يتناولان الشاي الحلو بالنعناع وخبز أم لمياء الساخن الذي تقدمه فوق صينية ألمنيوم., حرصت أن تنظفها جيدا بالصابون والسلك الناعم لتبقى لامعه وبراقة.
بعيدا عن فوضى ما بعد الاحتفال,أخذت مها صديقتها لمياء تريد أن تعرف ما حصل لها, ولماذا وصلت إلى هذه الحالة .وهما على بعد أيام قليلة من الامتحان الحاسم.
بدون أن تثني رجلها المضمدة جلست لمياء على درج الممر المؤدي إلى سطح المدرسة بعيدا عن البنات وتدخلاتهن الغير لطيفة.
- لمياء: هل تعلمين أنني أصبحت بالغ عاقل قبل ثلاث أيام؟
– مها متهكمة : وهل كنت مجنونة قبل ذلك؟
– لمياء تريد أن تفسر كلامها :اقصد أنني وصلت إلى سن الرشد قبل ثلاث أيام ,يعني عمري الآن ثمانية عشرة عاما وثلاث أيام
– مها – كعادتها- وبصوتها العالي:والجرح الذي شوه ساقك ..هل كان هدية عيد ميلادك؟
تنهدت لمياء قائله:تستطيعين القول..انه كذلك!!.
لمياء الطفلة ,أصبحت شابه بالغة عاقلة ,ما أن تعدت يومها الأول بعد الثامنة عشرة ,حتى اجتمع إخوتها الكبار من اجل أن تتنازل عن حقها الشرعي في الميراث الذي ورثته عن والدها ,كعادة بنات عائلات المنطقة وما حولها.وكما فعلت جدتها وأمها من قبلها, فمن العيب أن تتقاسم البنات الإرث مع الإخوة, وذلك للمحافظة على الإرث باسم العائلة, وان لا يذهب, لأبناء الغرباء الذين سيتزوجون بناتهم.
الإخوة وعائلاتهم, يتمتعون بالمال والأرض وتترك البنات, لمواجهة نصيبها في الحياة مع زوجها وأولادها, الذي يقع دائما في دائرة احتمالات الفقر أو الغنى, وذلك حسب ما تقدره الأرزاق والأقدار.
أموال وأراضي تحرم منها البنت ويعاب عليها المشاركة , في قسمتها ,في سبيل الإبقاء على علاقات الوصل والتواصل التي تضع الرجل في خانة ,واجب زيارتها في الأعياد وإحضار بعض الحلويات لأولادها أو نقدها بمبلغ بسيط “عيديه”.مرتان في السنة.
مدت لمياء ساقها التي لا تزال تؤلمها فوق الدرج وقد أسندت ظهرها إلى الحائط ,مذكرتا, صديقتها مها , بتلك القصة التي وقعت قبل سنتين وكيف استطاع خالها الكبير اخذ أمها إلى المدينة ومعها أخواتها البنات من اجل أن يتنازلن في دائرة الأراضي عن نصيبهن في الإرث ,وكيف أن الإخوة لم ينسوا, تكريمهن, بدعوتهن إلى احد المطاعم المعروفة ليتناولن وجبة طعام دسمة من الكباب والمقبلات ,يتناولن بعدها الكنافة احتفالا بالتواقيع التي فتحت أبواب الغنى عليهم بعد أن تحولت الأراضي من زراعية إلى سكنيه, تباع بالمتر وتقاس بالسنتيمتر .
لم يكن حديث الأم, وقتها ,عن مقدار النصيب الذي تنازلت عنه ولا عن قيمته المادية, وإنما عن الحفاوة والتكريم الذي أغدقه الإخوة عليها وكيف تكبد الإخوة اخذ إجازة من العمل وترك العائلات في عمان والقدوم إليهن وأخذهن, معهم بسياراتهم الضخمة الفارهة, وإعادتهن إلى بيوتهن سالمات ,وكيف جلست أمها فوق المصطبة , تشرح لأولادها ,كرم خالهم وتكبده مصاريف الدعوة لتناول الكباب والكنافة على حسابه الخاص.
وكمثل الأم البنت ,انتظر, إخوة لمياء, أختهم ,آخر العنقود , أعوام حتى بلغت الثامنة عشرة , سن الرشد, ورفع الوصاية عن الميراث بعد أن أصبحت شابه .
وقفت لمياء ,تراقب مأمور الأراضي الذي يحمل أوراقه وسجلاته وختم الدولة, ليسهل عمليات النقل والتنازل بين العائلات.
تصدر مأمور الأراضي, الفراش الذي وضعته الأم على الأرض, حول المصطبة المطلة على” حوشهم” الكبير .
نظرت لمياء إلى الحضور وقد استحضرت بذاكرتها, اليوم الذي تنازلت فيه أمها عن حقها بالكامل لإخوتها وكيف أنها ذاقت ,وإخوتها تعب الإبقاء على العائلة, وحماية أسرارها حتى لا ينتشر عوزهم وحاجتهم بين الناس, بعد أن توفي الأب وترك خلفه عائله, وزوجة, أفنت عمرها في رعاية الأولاد وجمع الغلال وتربية الأغنام . يستفيدون من ريع الأرض دون التصرف بالإرث لحين بلوغ الطفلة لمياء ووصولها لسن الرشد.
تناول الجميع أطباق الكباب والمقبلات التي احضرها الأخ الكبير من عمان حتى لا يزعج أمه بتحضير الطعام. وإكبارا لواجب المناسبة,وبعد تناول الكنافة ,نادت الأم على لمياء من اجل التوقيع والتنازل ,وعندما اقتربت من المأمور وأوراقه ,سمع الجميع صوت لمياء :لن أوقع..لن أتنازل ابدآ!!
ساد المكان صمت جمد الوجوه, التي توجهت, للفتاة الواقفة أمامهم, تنتظر ردة فعلهم الغير عاديه.
كان الأخ الكبير قد تسمر في مكانه ,ثم خرج من صدمته صارخا بلمياء:إنتي إنجنيتي ..يا بنت؟؟
وقفت لمياء وقد استشعرت بتوتر الأجواء حولها :لا.. أنا مش مجنونة.., الدين والشرع يسمح لنا إن نرث مثلكم!!
ثار الأخ الكبير مزمجراً. موجه كلامه لأمه التي لجمتها الدهشة:هاظ آخرة التعليم…وآخرة الدلع كمان!!محاولاً النهوض للامساك بلمياء ,وإجبارها على التوقيع ,التي لم تعطه مجال للامساك,لتقفز,من فوق المصطبة وقد انتشرت الفوضى والصراخ في المكان وثارت الأجواء حولهم , الأم تصرخ وتنادي على لمياء التي لم تجد إلا القفز وسيلة للهروب من طقوس التنازل ,محاولتاً الوثب فوق حوض النعناع وشجرة الورد متجاوزتاُ, السلك الحديدي الشائك , إلا أن ساقها علقت بالسلك الشائك , أثناء محاولتها الابتعاد والهرب إلى حقول القمح القريبة,متوجه لبيت جدتها العجوز ,وأمها تنادي بصوتها الغاضب:ارجعي يا بنت ..ارجعي لا تفضحينا مع الناس.!!
الكلب أشهب, قطع غفوته أمام الأغنام ليعدوا خلف لمياء, وقد اضطرب القطيع , وتعالت أصواتها مع نباح الكلب “أشهب”, وأخذت “ست الحسن” اقصر الطرق عبر المصطبة لتلحق بمدللتها بقفزة رشيقة, فوق حوض النعناع وشجرة الورد.وقد تناثرت صحون الكنافة ووقف الجميع يشاهدون لمياء, وهي تركض بأقصى سرعتها لا احد يعلم متى ستتوقف .
انسحب مأمور الأراضي تاركا المصطبة ,بعد أن اضطربت الأمور حوله,وقد خشي أن يسترد الأخ الكبير المبلغ الذي نقده إياه, فتسرب بنفسه مبتعدا, خارج باب “الحوش”, وقد تعالت أصوات الإخوة بين مؤيد ورافض ومتوعد بتأديبها, على فعلتها المشينة بين الناس.
خط من الأنسجة المتجددة فوق ساقها اليسار يشهد على واقعة تحملت بعدها الكثير من السخط والغضب, لكنها استحقت العيش برفضها أن تكون ضلع قاصر في مجتمع رجولي يتجاوز حقوقه لينهب حق الآخرين.بالعيب والغير مسموح.
لمياء الآن, تحمل شهادة الدكتوراه في اللغة العربية ,تتابع مواضيع حقوق المرأة والعنف الأسري ومواضيع تمكين المرأة في المجتمعات المحلية,سيدة تعمل بهدوء وصمت, تحمل دائما, وسامها الذي يرافقها….خط من الأنسجة المتجددة فوق ساقها اليسار, مجرد ندبة, وقفت أمام محاولات كثيرة, تمد فيها ولائم الكباب والكنافة, فوق الحقوق والشرعية.
.