صلاح أبو لاوي
مقاطع من سيرةٍ لمْ تكتملْ
مهداة إلى صلاح أبو لاوي
(1)
من تعاليم غربته ِ
حثَّ هذا الشبيه خُطاه ْ
كان طفلا ً
وما زال َ طفلا ً
وإنْ خط َّ بعضُ البياض ِ
طريقا ً إلى منتهاه ْ
سأقصُّ لمن لا يهمهم ُ أمرُه ُ
ما تيسَّرَ عن نزْفِه ِ
من ثقوب الحياه ْ
(2)
أنظروا للنخيل ْ
كمْ يحاول أن يتطاول َ للغيم ِ
لكنه ُ لا يطول ْ
وأجمل ما في الحياة ِ
محاولة المستحيل ْ
قال طفل المنافي عنان ُ
ونام على موج فكرته كالقتيل ْ
(3)
من كروم السنين ِ تدلـّى
وأيّار ُ ريحٌ تهزهز ُ حُصْرمَه ُ
فيميل ُ كما مالت الريحُ
ذات يسار ٍ
وذات اعتدال ْ
بالعصافير ِ كان يفكّر ُ
منْ حقّها أن تطير َ
وتنقر حبَّ السماء ِ
ومن حقّها أنْ تعودَ مساءً لأعشاشها
دون أن تتمرَّغَ في الغمغمات ِ
وطين ِ السؤالْ
كان يحلم ُ
والحلم ُ حق ُّ المقيّد ِ
كيف سينضج من غير صيف ٍ
وكيف الشهور ُ توال ٍ
على كلِّ شيءٍ سواه ْ
حبيس ُ الخماسين
ما زال َ من كرْمه ِ
حُصْرما ً يتدلى
وإنْ مرّت السنواتُ الطوالْ
(4)
الزمان ُ
قبيلَ احتلال ٍ
وبعد احتلال ْ
بين موتين أبصر هذا الفتى عتمه ُ
وأطلَّ على صوت ِ دايَتِهِ
وهي تصْرخُ في أمّهِ
أبشري بالغلام ْ
لمْ تكن ْ بعدُ تدركُ
أنَّ الرجولةَ محضُ كلام ْ
وأنَّ الفتى
سيقيسُ الهزائم َ شبرا فشبرا ً
بعيدا ً
بعكس إرادته ِ
عنْ حدود ِ التقاطع
في لغة الاحتمال ْ
(5)
الزمان ُ
حبالٌ تدلـّتْ من الغيب ِ
نهبطُ منه ُ بلا سببٍ
وحفاةً عراةً
نعود إليهِ
فكيف نمرُّ على جمرنا
دون أنْ نكتويهِ
وماذا نعدُّ لأجيالنا في الزوال ْ
صاح ملء الفضاءِ عنان ُ
ودايته ُ لا تزالْ …….
(6)
الزمان ُ
زمان ُ الرّجالِ السّجون ْ
الرّجالُ الذين على نشراتِ الإذاعاتِ هم غاضبون ْ
الرّجالُ العَجَبْ
تتسربُ منهم بلاد ٌ بأكمَلِها
جالسين َ
تخدِرُهمْ حلقةُ الشاي كلّ مساءٍ
( وصوتُ العربْ)
(7)
الزمان ُ
زمان ُ النساءِ النساءْ
النساءُ الـلواتي فقدنا طهارة أثوابهِنَّ
الحكيمات ُ كالأنبياءْ
صانعات ُ الرّجال ِ
المُحبّات ُ حتى الفناءْ
النساءُ الحكايات ُ قبل المنامْ
صوتهنَّ المدام ْ
النساء ُ اللواتي
يهبنَ العصافير َ أجنحة ً بالدعاءْ
(8)
الزمانُ
زمان ُ ( المُؤَنْ)
والأنوروا تكدِّسنا في سراديبها
كلّ شهر ٍ
لصَرْفِ الثمن ْ
الأنوروا ؛
دكاكينُ بيع ِ البلاد ِ ،
الجناح ُ السياسيُّ للإحتلال ِ ،
الطريق ُ الممهّدُ
من حَفَلاتِ الإبادة ِ حتى الكفَنْ
(9)
الزمان ُ البدائل ُ
كلُّ البدائل ِ
إلاّ الوطن ْ
(10)
المكان ُ
دوائر ُ طين ٍ على حافتيّْ سِكـّة ٍ للقطارْ
شمالاً
طيور الرّحيل على تَعَب ٍ
وضَعَتْ حِمْلها
فتنامى المخيّم ُ
بقعة زيت ٍ على صفحة الرّيح ِ
تحرسهُ جهة الغرب ِ مقبرة ٌ
ليساق لها
كلُّ مَنْ سئِمَ الانتظار ْ
وإلى الشرق ِ مدرسة ٌ
طـُلِيَتْ بالبياض ِ
تُذكـّرُ روّادها الحالمين
بلون مناديل آبائهمْ ساعة الانكسار
هناك َ
عنان ُ تعلّمَ كيف يشقُّ السّديمَ بأسنانهِ
ويعلـّقُ نجمته في المدار ْ
(11)
في الجنوب ِ
إلى حيث تهمي عيونُ الأزقة ِ
وَحْلَ مرارتها
نحو ( جنّاعة ٍ)
أختهمْ في اللجوء ِ التي وَلـَدُوها لتحميهم ْ
من صقيع الزمن ْ
لفظته المواجع ُ فوق حصيرة ِ قشّْ
الفِراشُ الأثير الذي غيره ُ ما افترَشْ
الحصيرُ الذي لملمَ الجوع عن أهله ِ
منذ سالوا من البرتقالة كرها ً
(لعقبةِ جَبْرٍ)
إلى خيمةٍ في فضاء المِحَنْ
وعنانُ الذي نَفَرَتْ خيلهُ في البعيد ْ
لمْ يرَ الرّحْلةَ الموت َ
لكنه ُ في الحكايا تقمّصها
من جديد ْ
كأنّ الذي عاشها لمْ يعِشْ
والذي صقلته الحكيّة أدركها في الشَجَنْ
(12)
المكان ُ
الحواري بكلّ تفاصيلها
منذ أن تصرخَ الشمسُ بالنائمينَ
وحتى المغيب ْ ؛
بائعُ ( الغاز) يقرعُ جرّتَهُ
مطلقا ً عينه في الشبابيك ِ
منتظرا ً أنْ تجيبْ .
ذلك البدويّ الذي كم تراكضَ خلف حِمارتِهِ صبيةُ الحيِّ
يختصر الرّزق َ في أبيضينْ :
قلبه والحليبْ .
صانع العنبر المستعدُّ لأيِّ مقايضة ِ
من رغيف ٍ يسدّ به جوع أولاده ِ
لأوان ٍ تُعاقر ُ وحدتها
منذ أنْ أفرغتنا الهزيمة ُ من كلِّ زادْ
صائحا ً فم ُ خيبته ِ
( عنبر يا اولادْ) .
بائع الخضرواتِ العجوزُ
بعينين ِ غائرتين ِ
تضيقان ِ حين ينادي
وتتسعان ِ
إذا داعبته ُ لتكسر حاجز( كشرتهِ) اْمرأة ٌ
أوْ دَعَتْه ُ لإبريقِ شاي ٍ
فألقى على العَتَبات ِ
بقايا توهّجه ِ
في الحياة ِ الرّماد ْ .
وكعادتها
في الصّباح ِ الأزقةُ تُتْخمُ بالصّاعدين تراب المدارسْ
كأنّ الحياة التي أنجبتهم ْ
حفاة ًعلى شوكها
قرّرتْ أنْ تسايسهمْ
والحياة ُ كما الناس
حينا ً تجور ُ
وحينا ً تسايسْ
(13)
المكان ُ الرّضا
هكذا
حمل الطفل ُ غايتهُ
في حقيبته ِ ومضى
(14)
كيف أذكرُ ذاك الخريفَ
ولا أوقظ ُ النحل َ
قال عنان ُ
وحكّ بكأس ٍ قريحته ُ
فتصاعد َ ماردُهُ منْ دخانِ ثمالته ِ
قال يا مارد ُ
إنّ لي أخوة ً قايضوا جثتي بالتراب ْ
والمدى شاهد ُ
فبكى ثمّ غابْ
فأطال عنانُ الحديث َ إلى نفسه ِ
موغلا ً في الشراب ْ
(15)
هلوسات ٌ تقودُ إلى هلوسات ْ
والحقيقة ُ تائهة ٌ بيننا ،
بين منْ يلعق ُ الجمرَ مستسلما ً للشتات ْ
والذي قَعَرَ الأرض َ
يبحثُ عن طينه ِ
في الممرّ إلى الله ِ
دون وداع ٍ
ودون التفات ْ
يا أبي
كيف تتركنا تائهين على صفحة الماء ِ
والغيب ُ غول ٌ
يُعِدُّ بنيه ِ لأيامنا
كيف تعبر كالسّهم ِ بين القلوب ِ
فتترك ُ للريح ِ أحلامنا
يا أبي
كلـّما رفعتكَ السماءُ
تذكـّرْ
عنان َ الطريّ ابن تسع ِ سنين ٍواخوتَهُ
وتذكرْ
وأنت تغادرُ وهْم َ الحياة
وأنت تغازل ُ حورية ً
وجه أمّي التي أودعتك نضارتها
وبَنَتْ وطنا ً لك في كلِّ منفى
وقدْ حاصرَتْك َ الزّوابعُ والعاديات ْ
يا أبي
لا نزالُ على قيد آلامنا
لا الرّحيل ُ
ولا الاحتلالُ
ولا موتنا المكتملْ
همّنا
فهي أشياء قابلة ٌ أنْ تدور على عقربِ السنوات ْ
همّنا
أنَّ أمّي التي حَمَلتْكَ على حملنا
والتي حملتنا على حملها
في رؤى الممكنات ْ
لمْ تعدْ تحتمل ْ
فهوى نجمُها
وهيَ تدعو عصافيرَ أرواحنا
فوق أعشاشها
بالثبات ْ
يا أبي
مرّ موتُ كثير ٌ
ونحن نراقب ُ عتم َ الزّقاق ِ
على أمَل ٍ
أنْ تعود مساءً كما عودتنا خطاكْ
كلما لمَعَتْ في الخيال ِ الطفوليّ كوفية ٌ
تشبه النجم َ
قلت أبي
وصرخت ُ بأختي الصغيرة ِ هذا أبي
فتُرَبِّت ُ أمّي على كتِفي
وتضم ُّ إلى صدرها جسدي كي أراكْ
يا أبي
لا أحدْ
كان يجعل ُ هذا الظلام َ بهيا ً سواك ْ
(16)
من رغيف النهار ِ القصيِّ
إلى صيد ِ بعض العصافير ِ حول مكبّ النفايات ِ
كان عنان ُ يقود شقاوته في النهار ْ
والنهارُ ثقيل ٌ
على من تخطـّفه ُ اليُتْم ُ غضا ً
ولا شاطئ ٌ لاتكاءِ يد الماء ِ
لا زورق ٌ
لا غيوم ٌ تبلل ُ ريق طفولته ِ
لا قرارْ
هكذا
حَمَلَ الطفل ُ آنية َ الرِّزق ِ
يبحثُ عن لقمة ٍ
في جيوب ِ الصغار ْ
وتَعَلـّم َ أنَّ عليه اختصار طفولته ِ
فتهجّا معادلة الاختصار ْ
(17)
كان وجه ُ السماء ِ يكشّرُ عن نابه ِ
كلما فـَتحتْ لعنان الحياة ُ نوافذها
لتمرّ سحائبه ُ من دوائرها ،
كيف قصّتْ يد ُ الغيب ِمن حلمه ِ
وتر الصحو والليل ِ
خلَّ شقاوته ِ في السنين العراءْ
ووليد ُ الحكيم ُ كما كان يحلو له أن يسمِّيَهُ
يرسمان معا ً في الهواجس ِ شكلهما
يجمعان محار الكلام ِ على شاطئ الشمس ِ
أو يصعدان سلالم َ حلمهما
ووليد الذي كان كالماء ِ
ينساب من نفسه ِ
جفّ عود ابتسامته ِ
فترجل عن خيطها النبويّ
وعاد إلى طينه مثقلا بالخواء ْ
فبكاه
وكان على نفسه ِ غارقا ً بالبكاءْ
(يا عنانْ ..
إنّه الامتحان ْ )
كلما اشتدّت الرّيح ُ ضيقا عليه ِ
تواسيْه تلك النبيّة في طهرها
وتعلـّقُ في قلبهِ جَرَسَ الضّوءِ مِنْ سِحْرها
ثم تُطلِقُه ُ فرَسا ً للرِّهان ْ
( من زوابع حزنك َ
فجّر طريق َ غد ٍ
وتزوّدْ بماءِ الحياة ِ فإنّ دواليبها
لا تكفُّ عن الدوران ْ
يا عنان ….
يا عنان ْ … )
وعلى رَمْل ِحكمتها
نبَتَ الطفل صبّارة ً
في عيون الطريق ِ
وهاجسه ُ الفرقدان ْ
(18)
كلُّ شيءٍ هنا واضحٌ كالضّباب ِ
فللذئب ِ فكرته ُ في اقتناص الخطى
ولنا الرّيح ُ والماء ُ والسُفُنُ الصافنات ْ
كلّ شيءٍ تبدّل َ
لا الشعر ُ يهزم ُ دبّابة ً
لا يد الله فوق الجماعة ِ
لا خندق ٌ يحرسُ الدم من عُرْيه ِ
لا خطوط ٌ أمامية ٌ
لا جرائد ُ لا نشرات ْ
كل شيءٍ تبدّل َ
لون المساء ِ
اللسان ُ
وفاكهة ُ الصيف ِ والمفردات ْ
كلّ شيء ٍ
وبيروت ُ أرملة ُ الشهداء ِ
تُغفّرُ وجه السماءِ بحنائها
وتمزق ثوب الصلاة ْ
كلمات ٌ تضيقُ
وأخرى توسّع ُ من أفقها
والنتيجة واحدة ٌ
كلّ شيءٍ تبدل في نفسه ِ
وعنان الفتى المتأججُ
ابن المسيرات والحلم والشعرِ
عاد إلى أمّهِ
كي تلملمهُ مثلما عوّدتهُ
ويذرفَ في حِضنها الأمنياتْ
كان يحلمُ
والحلم زاد الوحيد ِ
ودربُ الطـّريد ِ
وسارية التائهين على لجّة الصفعات ْ
كان يحلم ُ
ما زال يحلم ُ
فالحلم ُ آخر خيط ٍ لمن فقدوا ظلهمْ في الحياة ْ
(19)
هلْ أقدُّ قميصَ الحروف ِ
أم الصمت ُ أبْلغ ُ
حين ينامُ العساكر ُ تحت ظلالِ البنادق ِ
قال عنان ُ
ومدَّ إلى جهة ٍ عينه في الكلام ْ
فتراءى له ساحلٌ
حدثته النوارسُ عنهُ
وبيت ٌ من الطين ِ تعْلوهُ (عِليّة ٌ )
ورأى جدّه ُ
يجمعُ البحرَ مِنْ حوله ِ
ليقول وصيته ُ وينام ْ :
” يا بُنيّْ
نحن أهل السلام ِ وبيتُ السلام ْ “
قال يا جدُّ
لا أرض لي
كيف أمشي بلا قدمين
وكيف بلا أفُقٍ سيطير الحمام ْ
الدوائر من حيث تبدأ لا بدَّ أنْ تنتهي
كلُّ خلف يجرُّ إلى خلفه ِ
والأمام ُ يقود الأمام ْ
واضحون َ
وهُمْ واضحون َ كلونِ دَم ِ السنوات ِ الحرامْ
فالسلام عليك َ
السلام علينا
السلام على حقّنا في السلام ْ