السخرية والتاريخ وهدم الأسطورة
قراءة في رواية (بغل المجلي) لـ عبد الجواد خفاجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فتحي عبد السميع
في إطار ساخر يحمل العديد من العناصر الأسطورية تأتي رواية ( بغل المجلي ) لعبد الجواد خفاجي لتتمحور حول ذلك البغل الذي التفَّت حوله الجماعة الشعبية بوصفه كائنا خارقا ينتمي لعالم ما وراء الطبيعة ، وإن اختلفت تصوراتهم عنه ، فبعضهم يرد أصله لعالم الملائكة ، والبعض يذهب بأصله لعالم الجن ، والبعض يراه وليا من أولياء الله الصالحين ، وهناك من يري أن روح أحد أولياء الله الصالحين هي التي تجسدت في البغل ، ومع اختلاف كل تلك التصورات يبقي إجماع علي أنه خالد لن يموت ، وإن كان اختفائه فجأة كما ظهر فجأة يبدو احتمالا واردا ، لكنهم يرون في ذلك نذير شؤم علي القرية كلها ، وإيذانا بانتزاع البركة من زراعاتهم وأموالهم وأعمارهم .
ومن هنا يكتسب البغل حضورا أسطوريا في وجدان تلك الجماعة ، فمن خلاله يتحقق علاج المرضي خاصة من العقم ، وبه يلوذ الفقير أملا في الثراء ، ويقصده كل صاحب حاجة لقضائها.
وتمتلئ الرواية بالممارسات الخاصة بالبغل خاصة استخدامات روثه فهناك من يلطخ به الوجه والجلباب ، أو يعجنه مع الطين والتبن ويلطخ به جدران البيوت وأبوابها ، وهناك من يستخدمه كبخور والمرور عليه سبع مرات ، أو يضعه في ماء الاستحمام ، أو يفرك واحدة في حقيبة الملابس ، أو يلقي واحدة في ساقية مهجورة ، أو يضعها في جيبه ، أو تحت مخدة ، أو طبخها بخل أحمر واستخدامها دهان ، أو فركها علي عتبة مكان بعينه يرتبط بقضاء مصلحة .
وتبلغ أسطورة البغل ذروتها في ليلة الجمعة الأولي من كل شهر قمري ، حين يتوسط بقلادته الذهبية حلقة كبيرة من الدراويش وهم يرقصون علي إيقاع الدفوف والأناشيد .
هذا الزخم المرتبط بالبغل لا يحمل لنا زخما مماثلا من الدهشة أو الإعجاب ، فالرواية لا تقدم أسطورة بل تحطم أسطورة البغل عن طريق حبكة لا تضع لنا مجالا للحيرة والشك أو الارتياب في طبيعة البغل ، فنحن نعرف أن صاحبه دجال ، وأنه مجرد بغل أرضي لا يرتبط بسماء ولا ببركة بل هو بغل مسروق ، وعلي هذا تأتي الحكاية في إطار السخرية من حمقي يتفننون في التأويلات الخرافية وينساقون خلف أكذوبة ليمدوا لها جذورا في التراب وغصونا في الأعالي.
بناء الرواية وموت الأسطورة
تبدأ أحداث الرواية من زمن إعلان موت البغل وتنتهي مع وصول الجموع لمكان موته وركض المجلي ثم إلقائه بنفسه في النيل ، وتنقسم إلي أربعة عشر فصلا ، تتخذ معظمها من موت البغل محطة انطلاق لشخصية من الشخصيات بحيث نري رد فعل الشخصية علي خبر الموت واسترجاعا يكشف عن علاقتها بالبغل وصاحبه ، ومع تلك الاسترجاعات تتطور حكاية البغل ، وتتكشف تفاصيل حياة المجلي وأسرار صعوده إلي قمة الثراء والسيطرة لا علي الفقراء أو العامة بل علي رموز القرية بما فيهم التاجر الثري ، أو مالك الأطيان ، أو العمدة أو حتى ممثل الحكومة الذي ينهار ويري استحالة العيش في المكان في ظل غياب البغل .
مع حدث موت البغل تمضي الرواية إلي ترسيخ موته عبر وسيلة أخري هي الكشف عن حقيقته الزائفة ، وتمزيق الغلالة الأسطورية التي يرفل فيها ، فالرواية لا تبحث عن أسطورة ، ولا تستغل عناصر الحكاية في أسطرة النص ، . باستثناء مشهد المجلي الأخير وهو يطير من فوق القنطرة ليختفي في الماء .
فهدف الرواية الواضح هو القضاء علي تلك الأسطورة التي تملك إزاءها موقفا واضحا ولا تسعي حتى لاكتشاف ما يجعل البغل وليا بعيدا عن مهارة الكذاب وحماقة الأتباع . وإن لجأ الراوي في نهاية الرواية إلي عدد من الأسئلة التي حاول أن يستبطن بها سر انقياد الجموع وراء المجلي .
وباعتماد الرواية علي تلك اللحظة يفتح الراوي المجال للتاريخ ، ويبدأ باستخدام تقنية الخبر كأداة ربط ونقطة انطلاق للأحداث التي تبدأ بصورة بنت المجلي وهي تعدو صارخة معلنة موت ( بغل المجلي ) ومن تلك اللحظة تنطلق معظم الفصول أي أن الراوي يفتت السيرة وينثرها بامتداد الرواية دون التزام بترتيب معين ، ومن خلال منظور شخوص أخري ، وهنا لا يبدو الراوي منشغلا بذلك البطل أو استنفاد حكايته معرفيا بقدر انشغاله بالجماعة وتصوراتها عنه .
ومن هنا يأتي عبوره السريع علي لحظات ثرية روائيا وأهمها لحظة جلوس المجلي علي أريكته بعد موت البغل وقبل قيامه بالركض وإلقاء نفسه في النيل ليختفي إلي الأبد ، لقد انتظرنا الراوي العليم الذي كنا نراه في رؤوس بعض الشخصيات يرصد أمنياتها ورغباتها وسيناريوهاتها الخاصة لبعض المواقف ، أنتظرناه يدخل رأس المجلي في تلك اللحظة التي قرر فيها الانتحار الذي لم يكن هناك ما يبرره ، حتي لوكان موت البغل الذي يمكن استبداله بآخر ، لقد كان بوسعه العيش بعد موت البغل وكان يمكنه خلق أسطورة بغلية أخري ، ولم يكن هناك من دافع يبرر الانتحار ، وموت البغل لم يكن يشكك أبدا في قدراته ، فالعقل الخرافي لم يسأل عن كيفية موت البغل السماوي ، بل انشغل فقط في أمور دفنه وغسله وتكفينه ، بعد أن انهالوا علي جثته تقبيلا وروثه خطفا ، هذا يعني أن الرواية اكتفت فقط بالتعبير ولم تجعل من التفكير الروائي مجالا للكشف ، لقد أحكم المؤلف علي زمام الشخصيات بقوة ، ووظفها في القيام بالأدوار المرسومة لها بعناية ، ولم يستسلم أبدا لفضاء الشخصية ، وبراحها الوجودي ، منطلقا من إمكانيات تتيحها ولم تكن مرسومة لها سلفا.
السخرية وهدم الأسطورة
تلعب السخرية دورا هاما في النيل من أسطورة البغل ، كما تلعب الدور الجمالي الأبرز في الرواية وهي تظهر منذ اختيار البغل ليكون موضع التقديس ، واختيار روثه موضعا للفائدة والممارسات المختلفة ، كما تظهر مبكرا منذ عنونة الفصل الأولـ بعد المدخل التاريخي بـ ( المهاطيل ) وهو الفصل الذي يصف فزع الجموع وصدمتها بالخبر ، ووضع ذلك العنوان في البداية يكشف مبكرا عن موقف معين من الحكاية وأجوائها الغريبة .
وتظهر السخرية في الرواية عبر تجليات عديدة مثل الوصف المرصع بالمفردات الساخرة كتشبيه بن العمدة بلوح اللطزان وغيرها .
وتقوم السخرية أيضا من خلال ربط مفردتين في سياق معين يوحد بين عالمين مختلفين فنراه مثلا يربط بين الحمير والناس ص 65 في سياق يوحد بين غاياتهم وطبيعة وجودهم في مكان وزمان معين ، وهذا المزج بين عالم الحمير والناس يحمل إدانة ساخرة للناس ويكشف عن رؤية تتجاوز حد السخرية إلي التقريع الغير المباشر
وقد تعتمد السخرية علي المفارقة بين الواصف والموصوف ، فالراوي يقدم مقولة لمن يصفه بأنه أحد الصالحين لكن العبارة التي تليها تنسف صفة الصلاح من أساسها حين نري فتواه بولاية البغل المسروق.
وتعتمد السخرية علي الجمع بين صورتين متناقضتين لشخصية واحدة ، إحداها زائفة والأخرى حقيقية ، ويبالغ السارد في بهرجة الصورة الزائفة ، يرفع بنيانها عاليا ليهدمه دفعة واحدة ، وعلي سبيل المثال يقدم لنا صورة للدرويش وهو يحوم في لغة عامرة بالمفردات العميقة كالسر ، والوصل ، والبصيرة والروح التي تسبقه إلي الباب ، وفي اللحظة التي نري صورة هائمة في ملكوت الحضرة الذكية ، تدخل الصورة الأخري لذات لا تحلم إلا بالنوم علي الحرير ، والغوص في الفتِّ وخمش صدور الديوك ، واشتهاء الزواج بصبية في العشرين رغم بلوغ الدرويش لعامه الستين ، ثمة إذن صورة روحانية خالصة ، وأخري شهوانية خالصة ، الأولي علي عكس طبيعتها خارجية زائفة ، والأخري داخلية عميقة وحقيقية ، ودمج الصورتين يكشف عن سخرية بالصورة الأولي ، صورة الدرويش الزاهد والسابح في الملكوت .
نفس الأسلوب يتكرر بشكل معكوس مع خليفة المجلي الذي يظهر منذ الوهلة الأولي استخفافه بالدين بشكل فج ، ثم يتوالى تاريخه مع الفساد ، وعند انتقالنا لصورته الأخرى بوصفه نائب الولي ، وأمير الجماعة القادم نفقد القدرة علي التماهي مع عالمه هذا ، ولا يبقي لنا سوي متابعة هذا الفاجر بازدراء وهو يتقدم إلي التقديس عبر مفاهيم الولاية والبركة وغيرها من عدة النصب .
وهناك السخرية الداخلية التي تمارسها شخصية من الشخصيات ، كما حدث مع سعدية الحلبية في مشهد يجمعها بالولي الذي يقول في نهاية حوار بينتهما ( خلينا في الحي ) فتربط بين الكلمة الأخيرة وصيغة درويشية شهيرة وتقول بسخرية ( حي مدد ) ثم تضحك بصوت مسموع لتخرج بالمشهد إلي سياق أخر ، يسخر من عالم المجلي الزائف/ المقدس.
وتظهر السخرية أحيانا عن طريق المبالغة ، كما حدث خلال أزمة الروث الطاحنة التي كانت تعتصر المحتاجين .
التاريخ وهدم الأسطورة
يلعب التاريخ دورا أساسيا في هدم الأسطورة ، فمن خلاله نعرف أصل الحكاية ، وعبثية التصورات المبنية عليها . ومن هنا اهتمت الرواية بالتاريخ اهتماما واسعا ، وهي توظف تقنيات السرد المختلفة مثل الراوي ، ورسم الشخصيات وغيرها وسوف نحاول هنا الوقوف عند أبرز تلك التقنيات بغية رصد التمظهرات التاريخية المختلفة وأثرها في توجيه عالم الرواية إلي غاية بعينها .
الراوي وقناع المؤرخ
يقف الراوي علي مسافة بعيدة من الأحداث ، ونحن لا نعثر علي إشارة تساعدنا في تحديد تلك المسافة علي وجه الدقة ، لكننا نعثر علي إشارة لمحاولة اتصال بين نجع البغل ، ونجع الغرقانين تعود إلي عشرة أعوام ، ونحن نعرف أن النجعين ظهرا للوجود بعد أحداث الرواية
تلك المسافة لا تجعل من الراوي شاهدا علي الأحداث ، أو طرفا مشاركا في صنعها ، وبالتالي تنال من درجة تصديقنا لما يرويه . هكذا يظهر الراوي في صورة المؤرخ الذي يجمع النتف التاريخية من أفواه كثيرة ليقدم سيرة البغل وصاحبه ، أنه يعرض الحقيقة كما يذكرها الرواة ، فيذكر ما يعرفونه من أحداث ، وتحليلاتهم ، و أدلتهم المختلفة علي مزاعمهم التي تتناقض في أحيان كثيرة ، كما يقدم مطارحاتهم الكلامية واجتهاداتهم ، ويتابع تطورها مع الأحداث ، التي قد تصب في مصلحة رأي بعينه ، أو تضيف حماسا لطرف وفتورا لآخر ، ومع ذلك تبقي هناك دائما أسئلة بلا إجابة
والراوي يستخدم كثيرا تلك الصيغ المرتابة ، والتي تعني براءة الراوي من مسئولية القول ، مثل صيغة ( فيما يبدو) أو صيغة ( والله أعلم ) التي تعقب كلمة (قِيل) وتلك الصيغ تضع بعض المقولات موضع الريبة والشك ، وتحاول أن تقنعنا بنزاهة المؤرخ وحياده ، وتجعلنا أكثر تصديقا لما يأتي في صيغ حاسمة قاطعة .
و يعتمد الراوي / المؤرخ علي عدد كبير جدا من الرواة الذين تتفاوت أدوارهم فبعضهم يظهر علي نحو خاطف ويقتصر دوره علي شهادته علي مشهد صغير للغاية كمشهد سقوط أبي البطاح بعد نزوله من القطار وحمله إلي أقرب مقهي ، فعندما يقدم لنا الراوي ذلك المشهد يستخدم صيغة ( يقول بعض أصحاب المقاهي ) وهو بتلك الصيغة يؤكد دقته في العرض ، فالحدث العابر يستجليه عبر أكثر من شاهد عيان ، ونلاحظ هنا البعد الجماعي للرواة ، وهو بعد يظهر كثيرا حيث نبقي أمام مجموعات من الرواة يمكن تقسيمها إلي قسمين الأول يمثله الخبثاء أو الحساد والأخر يمثله السواد الأعظم من الناس .
القسم الأول يتسم بالتفكير النقدي والتأكيد علي فساد عالم المجلي وفي هذا القسم تتعدد وجهات النظر أو تنقسم فعندما يتعلق الأمر مثلا بعلاقة الولي بنائبه يظهر اتفاق علي فساد ، واختلاف علي من يستغل الآخر، الولي أم نائبه ، والغريب أن الراوي في سرده ينتصر لذلك الفريق ومع ذلك فهو يطلق عليهم ألقابا مثل الحساد والخبثاء ، لكأنه أيضا يسخر من تلك التهم الجاهزة
أما القسم الآخر ويمثله السواد الأعظم من الناس فيتعامل مع أقوال الخبثاء بوصفها إشاعات ، ويحترم المظاهر ويجعل منها مقياسا للحكم ، فذهاب الرجل إلي المسجد يعني كونه مؤمنا ، وهم ينتقدون أقوال الخبثاء ويردون عليها بما يحافظ علي أسطورة المجلي ولا يزعزع استقرارها.
وأحيانا تفتقد إحدى التفاصيل لراو كانقطاع صلة المجلي بالعمدة لفترة وهنا يعلق الراوي بأن أحدا من الرواة لم يذكر أسباب هذا الانقطاع ، ويقدم لنا أحد مناهجه وهو الاستنباط المعتمد علي بعض الدلائل وباستخدام ذلك المنهج يقدم لنا السبب دون أن يضع أيدينا علي تلك الدلائل وكيفية استنباطه للحدث الذي يكشف السبب .
هذا التقصي التاريخي يلعب عدة أدوار ، فهو يؤكد علي أهمية التاريخ في المكان ، ومدي تغلغل الحكاية في وجدان الجماعة ، واتساع رقعة الاهتمام بها ، والتي يمكن اعتبارها علي مستوي رمزي تلخيصا لجوهر تاريخ المكان .
التاريخ وبناء الرواية
يظهر البعد التاريخي واضحا من خلال فصلين مخصصين لتاريخ البغل الأول ( ما تيسر من تاريخ البغل ) وهو الذي يبدأ به الرواية ، والآخر ( المستدرك من تاريخ البغل ) يأتي في منتصف الرواية فيقدم كيفية ميلاد البغل وظروف هالته الأسطورية ويظهر التاريخ هنا كما يليق ببطل شعبي ، فيبدأ من تاريخ الأم ، وظروف لقائها بالأب ، والصراع الذي يدور من أجلها ، وهو تاريخ ينتهي بتأكيد ارتباطها بعالم ما وراء الطبيعة ، وتلك الهالة التي ترتبط بها الأم تهيئنا لبغل خارق للعادة ، وتذكرنا بالهالات التي ترتبط بالأبطال الشعبيين ، وهنا تتقاطع الرواية مع فن السيرة الشعبية ، إنها تتبع حكاية البطل من قبل مولده ، وتقدم ظروفا غير طبيعية للميلاد تنتهي فيها الأم نهاية مأساوية ، ويبقي البطل فترة رهين محبسه ، ثم تأتي لحظة التحول ويصعد مجده ، ليموت أخيرا ويختفي في ظل مشهد أسطوري ، لكنه يخلد بضريح لا ينقطع عنه الزوار والمحبون ، والخطاب الروائي من جهته يجعل من موته نقطة لانطلاق الرواية ، وعامودا فقريا لها ، فالشخصيات جميعها تظهر بشكل عابر ، ولا تحمل تفاصيل حياتها أية قيمة إلا ما ارتبط بالبغل وصاحبه والرؤية السردية .
التاريخ ورسم الشخصيات
يستفيد الرواي من لغة المؤرخين وهو يقدم الشخصيات حال دخولها مسرح الرواية فيذكر الاسم بالكامل واللقب والعائلة والعمل ويبين ما يرتبط بالكنية من ملابسات ، وقد يرجع إلي تاريخ مكتوب عبر وثائق رسمية متداولة بين أفراد العائلة ، وعندما يعثر علي معلومة تاريخية ، كلقب بك الذي حظي به أحد الأجداد يقدم تفاصيل وظروف هذا الحدث التاريخي.
من هنا تكثر المعلومات التاريخية ، وتأخذ مساحة كبيرة من تلك المخصصة لرسم الشخصيات ، وهنا ينفتح فضاء المكان علي عدد من السلالات فعندما يقدم شخصية ( المحجوب ) أثري أثرياء قرية الطرابشة يظهر المغاربة الذين ينسب اسم القرية إلي أحدهم ، والذين استوطنوا المكان منذ أيام المماليك عندما أحضروهم لتأديب عربان الصعيد حال امتناعهم عن دفع الضرائب ، ولا يتوقف الراوي عند هذا الحد بل يكشف امتداد تلك العلاقة بالمماليك ، ودورهم في إيواء مراد بك عندما فر إلي الصعيد ، وعندما يقدم شخصية العمدة ( أبو دراع ) يرجع إلي الجد السابع ، ليكشف عن أصل التسمية ، ثم يعرج علي ما يميز العائلة ، وصلاتها القديمة برأس العائلة المالكة ( محمد علي باشا ) التي امتدت حتى الملك فاروق الذي تأكد نسبه إلي الشرف بعد لقاء أحد أفراد عائلة أبي دراع ، وعندما يقدم شخصية ( عزت بك سلطان ) يبدا بأصله التركي ، وعائلته التي استوطنت البلاد منذ الاحتلال العثماني عندما أتت مع سليم الأول و وانتقل جزء منها إلي الصعيد . وعندما يقدم سعدية كبيرةَ الحلب يقدم تلك الجماعة السيارة ، ويستعرض سبب التسمية ، وتقديم الاحتمالات المختلفة له ، كما يذكر أهم صفاتهم ، وطبيعة علاقة الأهالي بهم .
ونحن نلاحظ أن تلك الشخصيات تكاد في معظمها أن تكون مختارة لتمثل كل منها شريحة ًمعينة وبيان دورها في حكاية البغل .
كما نلاحظ أن البعد التاريخي في تقديم الشخصيات يمضي ليشكل خطا موازيا لحكاية البغل في الرواية ، أو لكأن الشخصيات المختارة ليست سوي نوافذ يقدم من خلالها الراوي تاريخ المكان الهجين ، أو لكأن قضية النسب هي المحور الأساسي لحركة البشر في المكان وهو ما يظهر أيضا في مواقع متعددة ، وعندما يخصص فصلا لشخصية حميدة تلك الغريبة الوحيدة التي دخلت القرية ، نجد حكايتها المأساوية تعزف بلوعة أليمة علي وتر الحسب والنسب ، وما تفعله الحجارة بين العائلات ، ولأنها دخلت القرية هاربة من التاريخ العائلي ، أو متمردة عليه ، لم يمنحها المكان سوي المقبرة التي تعيش فيها ما تبقي من عمرها القصير لتدفن فيها بعد ذلك .
تاريخ المجلي ومفتاح المكان
والمفارقة تكمن في تاريخ المجلي ، فهو الوحيد الذي لا يعرف له لقب ، أو عائلة ، أو مكان ميلاد و أو أية معلومة سابقة علي تاريخ ظهوره في القرية ، سوي ما قرره هو للعمدة في البداية عن قبيلته الأندلسية التي تنتسب إلي قبيلة حجازية قديمة ، هذا فضلا عن شيخه المبهم تماما.
ومع ذلك فلم يكن المجلي ليغفل عن التاريخ بوصفه مفتاحَ المكان ، وهكذا كانت عدته وعتاده هي الكتب التاريخية مثل كتاب الجرد الذي يحوي الأنساب ، وكتاب (التاريخ الأوسط لقبائل الصعيد الأسعد) لمؤلفه (أبو سعيد الأرقط ) وهو نفس الكتاب الذي يستفيد منه الراوي أيضا.
وقد بدأ حضوره في المكان بالكشف عن نسب من يريد من ضيوف العمدة ، وبالطبع انشغل الناس بأنسابهم عنده وتناسوا صحة نسبه ، لكن هذا النشاط اقتصر علي تقديمه لعالم القرية تقديما فريدا يحوله إلي فئة المشهورين ، والتمادي فيه يحمل خطورة غدر العائلات الوضيعة ، وهنا يبدل نشاطه إلي تفسير الأحلام وعلاج المرضي بالأحجبة والفوائد .
تاريخ البغل / تاريخ المكان
تربط الرواية بين تاريخ المكان وتاريخ البغل ربطا وثيقا ، فالبغل هو العلامة الأساسية في تاريخ القرية ، بل وكلُّ ما يدخل ذاكرة الجماعة يتأثر بعوامل الزمن فيصيبه النسيان ، عدا ما يرتبط بتاريخ البغل فيبقي حيا.
وتاريخ البغل هو تاريخ التفكير الخرافي الذي يرجع إليه السبب في الكثير من مشكلات القرية وأهمها التعصب القبلي والذي يظهر بوضوح منذ إهداء الرواية إلي أبناء الصعيد الذين تطحن القبلية عظام حياتهم ، كما يظهر في النهاية عند انقسام أتباع المجلي إلي قسمين أحدهما مكث في مكان غيابه وكون نجع الغرقانين ، والآخر عاد إلي قصره وكون نجع البغالين ، لكن العلاقة بين النجعين تتوتر كطبيعة العلاقات بين عائلات الصعيد حتى تصير إمكانية النسب بينهما مستحيلة ، وكأن قدرَ القرية هو جمعُ أشتات لا تألف بعضها ولا يوحدها سوي التفكير الخرافي ومن هنا تصبح القرية رمزا لقري الصعيد المصري بشكل عام .
و تاريخ البغل بهذا المعني لا يتأثر بفترة معينة ، بل يتجسد عبر مكان ثابت ومقدس ليواصل تأثيره في الحاضر والمستقبل عبر طريقين .
الأول نفسي يرتبط باعتباره فضاء للراحة والاسترخاء بعد العمل الشاق ، أو التسكع في أيام العطل والمواسم أو ممارسة النشاط الروحي المتمثل في الحضرة
أما الآخر فهو دعم النظام القبلي بقسوته ، ولا عقلانيته ، وأحجاره الهائلة التي يلقيها بين الناس لتجعل الحياة وراءهم .
* رواية بغل المجلي صدرت عن الهيئة المصرية للكتاب سلسلة كتابات جديدة عام 2007