كثير من التحليلات المرئية والمسموعة التي ظهرت مؤخرا تحاول أن تفسر تدهور العلاقة بين حكومتي السعودية وقطر في ضوء دعم الحكومة القطرية لحركة الإخوان المسلمين الذين يتم تصويرهم وكأنهم في حالة صراع أيديولوجي مع شرعية النظام السعودي. وتدور مختلف تلك التحليلات على أن الصراع التاريخي بين السعودية وحركة الإخوان هي ذات صبغة دينية تتعلق بالمضمون العقائدي وليس صراعا سياسيا يتعلق بنظام توازن القوى. وعلى الرغم من أن بعض التحليلات الحديثة إمتلكت درجة عالية من الحرفية العلمية في الطرح والتحليل السياسي المناسب , إلا أن معظم مايطرح الأن وبكل أسف يخرج من دوائر معرفية بعيدة عن التخصص السياسي الدقيق, ويقدم بلغة إختزالية يسودها تسطيح الظاهرة السياسية الى أبعاد تأويلية تتنافى من حيث الجوهر والمضمون مع نظريات ومداخل العلاقات الدولية التي تنظر إلى السلوك السياسي بوصفه موضوعا يدور حول بنية النظام الإقليمي أو الدولي , والاليات الاستحواذية لعناصر القوة , وليس مجرد صراع حول نشاطات السياسة الخارجية , أوالمواقف الدبلوماسية حيال ظواهر العلاقات الدولية.
فالصراع ليس كما يصوره بعض المحللين على أنه خلاف (بين ) حركة الإخوان المسملين والنظام السعودي . بل في حقيقة الأمر أن طبيعة الخلاف في جوهره هو خلاف (على) الاخوان وليس (مع) الاخوان. انه صراع غير معلن حول الخاصية الوظيفية لحركة الإخوان كورقة ضغط تكتيكية قابلة للتوظيف السياسي وفق المصالح الاستراتيجية لكل دولة, وليس صراعا ضد المبادئ والقيم الأيديولوجية.أو بمعنى أخر هو صراع يعتمد بدرجة كبيرة على إستغلال الطابع االبراغماتي لسلوك الحركة والديناميكية النفعية التي تبني عليها مصالحها و تحالفاتها السياسية , وليس حول النسق الأيديولوجي او العقائدي لها . صراع في حقيقته حول السياسة, والمصلحة, واليات انتاج القو,ة كما تقول السياسة , وليس حول الدين, أو العقيدة, أو التاريخ ,كما يزعم بعض الهواة الإعلاميين وغير المتمكنين والضالعين في نظريات الفكر السياسي والعلاقات الدولية
وبنظرة متواضعة الى العلاقة التاريخية بين الحركة والنظام السعودي يمكن الاستدلال على أن النزاع لم يكن في أي مرحلة من مراحله صراع حول النسق العقدي بل هو صراع حول عمليات التوظيف السياسي للنشاط الأيديولوجي للحركة. فحركة الإخوان المسلمين انتفعت في سبعيات وثمانيات القرن المنصرم من كل تسهيلات وإمكانيات النظام السعودي عندما كان معظم قادة التيار في أوج تطرفهم الفكري , حيث استضافت الحكومة السعودية ورحبت بكل رموز وقيادات الحركة (وهو ذات السلوك السياسي التي تنتهجه قطر في الوقت الحاضر) وأتاحت لهم الفرص والامكانيات بالتحكم بمصادر تشكيل الوعي العام ,وتحديث البني المؤسساتية والمعرفية في السعودية بما يتسق مع النسق الأيديولوجي للحركة لاسيما في قطاعي التعليم , وكل قطاعات الأدلجة الثقافية وهو الحال الذي مكنهم بمرور الوقت من تشكيل قاعدة شعبية عريضة أنتجت مفعولها الحيوي في خطاب الصحوة التسعيني وتأسيس قدرتها العالية في عمليات التنظيم الحركي وعمليات التعبئة السياسية وذلك بانتاج أول أشكال المظاهرات والإعتصامات في السعودية ابان حرب تحرير الكويت بعد أن تحولت السعودية الى قاعدة ارتكاز استراتيجي ولوجستي للقوات الأمريكية, إ
وقد كان هامش ذلك الخلاف مقبولا ويمكن التجاوز عنه طالما اقتصر حول التفسير النقدي لكيفيات ممارسة النشاط السياسي واليات عمل السياسة الخارجية دون أن يتطور الى محاولات تغيير تركيبة توازن القوى الاقليمي واستدعاء ترتبيات حسابات للقوة جديدة قد تخل بتوازن القوى التقليدي والذي كانت تسيطر عليه ابان الثماينات ( مصر والسعودية والعراق وسوريا) , وبإهدار قوة العراق, وتوظيف مقدراته لخدمة المصالح الإيرانية, وانهيار مقدرات النظام السوري, وحالة الشلل العام للنظام المصري فيما بعد الربيع العربي , أصبحت السعودية تعيش هاجس إعادة إنتاج مراكز توازن القوى القديم لذي حافظت عليه لعقود طويلة ومن ثم إعادة توزيع الأدوار الإقليمية التقليدية دون إحداث تغيير دراماتيكي في توزيع اليات القوة والمراكز السياسية لكل دولة بالمنطقة.
ماتغير حقيقة في المشهد السياسي والذي أدى الى تدهور العلاقات السعودية القطرية هو انتقال (الخلاف) السياسي المتعلق (بتغير) المواقف السياسية واختلاف الاراء حول منهجية العمل الدبلوماسي , الى (اختلاف) استراتيجي يرتبط (بتغيير) حقيقي يمس استراتيجيات توازن القوى في المنطقة, واعادة توزيع خارطة النفوذ في المنظومة الاقليمية وفقا لتصور المصالح القطرية , فضلا عن استلاب الأخيرة لعناصر القوة التقليدية للنظام السعودي , واكتساب فاعلية قوة جدية وإستثنائية . فقد قاد تحويل رصيد القوة الدينية للاخوان المسلمين من البنك الايديولوجي للنظام السعودي وإعادة استثماره كوديعة ايديولوجية فاعلة ومؤثرة في بنوك السياسة القطرية إلى اكتسابها قوة ضخمة مكنتها من خلخلة معادلة توازن القوى الاقليمي في المنطقة والتي تشكل السعودية فيه الدولة المركزية والموازن أو المعادل الإستراتيجي للشكل المحافظ له بما تمتلكه من وزن فاعل في العالم بسبب طبيعة مصادر القوة النوعية التي تمتلكها في بناء علاقاتها الدولية والمحلية
وفي الحقيقة فأن هناك ثلاث مصادر أساسية لهامش القوة النسبية التي كان يمتلكها النظام السعودي حتى وقت قريب ساهمت بشكل فاعل في تعزيز شرعيته السياسية بالداخل , ومكنته من الحفاظ على توازن القوى في المنظومة الخليجية والإقليمية في الخارج : العلاقات الإسترايتجية مع الولايات المتحدة الأمريكية , فاعلية الشرعية الأيديولوجية المستمدة من الدين , والثروة النفطية الضخمة . وكما يبدو بأن النظام القطري تمكن من التقويض النسبي للدعم الأمريكي للنظام السعودي عبر نقل الجزء الأكبر من الوحدات العسكرية المقاتلة الى الأراضي القطرية , ولم يتوقف بمصادرة تلك القوة وحسب ,بل تمكن من إنتزاع أحد اهم مصادر القوة والتأثير السياسي الذي كان يعزز من الشرعية الدستورية للنظام ويعضد من نفوذه الواسع على الساحة الأقليمية, ممثلة بالأيديولجية التعبوية لحركة الأخوان المسلمين
ومن الواضح بأن ركني الدعم الأمريكي , والأيديولوجيا الإسلاموية للإخوان هما أهم مصادر القوة الجديدة للنظام القطري والتي ساهمت بشكل فاعل في نقل قطر من دولة صغيرة هامشية في مساحتها الجغرافية الى دولة شبه مركزية في نفوذها السياسي والاستراتيجي , متغلغلة بشكل عميق في كثير من مناطق النفوذ التقليدي للنظام السعودي ( اليمن , تونس , لبنان,سوريا ) بل وصل هامش نفوذها إلى خاصرة المحيط المصري ( السودان وليبيا, دارفور جنوب السودان حاليا ) وتوجت أخر مراحل تمدد نفوذها بالهيمنة على مصر بوصول الاخوان للسلطة , وهي المرحلة الحاسمة التي التي قد تكون بشكل أو بأخر قد ساهمت بإعادة تشكيل ترتيبات جديدة في بنية نظام توازن القوى في المنطقة لصالح الدولة الصغيرة المتنامية على حساب السعودية بإعتبارها الموازن الإستراتيجي الأكبر. هذا التغير البنيوي في شكل التوازن هو مايفسر سلوك السياسة الخارجية السعودية المباشر والمعلن-على غير عادة السياسة الخارجية السعودية- لدعم السيسي ومعالجة تحديات المرحلة المقبلة في مصر .
ويمكن القول بأن المنظومة الخليجية تشهد مايشبه الحرب الباردة بين السعودية كدولة كبرى تهدف الى الحفاظ على شكل توازن القوى في نمطه التقليدي , وقطر الدولة الصغيرة التي تسعى حثيثا الى إحداث تغيير دراماتيكي في مسار توزيع عناصر القوة في المنظومة الاقليمية. وفي واقع الأمر , فان الحرب الباردة بين الدولتين ليست جديدة من حيث التكوين والتشكل الوجودي, بل هي نتاج مرحلي لتعقيدات سياسية قديمة لها استدلالاتها العقلانية وسياقاتها الزمانية المثبتة تاريخيا . وقد بدأت الحرب الباردة بين الدولتين والصراع حول القوة بعد أن دعمت الحكومة السعودية و المصرية بشكل ثنائي محاولة الإنقلاب الفاشلة ضد الشيخ حمد بهدف اعادة العرش الأبوي القديم , الذي كان ملتزما بقواعد اللعبة التقليدية في المنظومة الخليجية دون أن يحيد عن خطوط توازن القوى التقليدي فضلا عن كونه حليفا مخلصا للسياسة الخارجية السعودية , تلك المحاولة الإنقلابية أعقبها فعل إستراتيجي حقيقي تمثل ببناء قاعدة العديد بقطر والتي سوف تغدو أكبر قاعدة عسكرية للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط, بالإضافة إلى تطوير علاقات تجارية مع دولة اسرائيل مستهدفة من تلك السياسات الجرئية ردع تكرار كل سيناريوهات المحاولات الإنقلابية في المستقبل والحفاظ على وجود السلطة الجديدة في الحكم .
وفي الحقيقة , لم تتوقف السياسة القطرية عند استقطاب القوة الأمريكية لحماية وجودها الجغرافي وكيانها السياسي , بل اتخذت خلال مسار علاقتها مع النظام السعودي خطا مناوئا ومعارضا للسياسات الإقليمية السعودية بدأت مع تأييد قطر للوحدة اليمنية في 1994 ضاربة بعرض الحائط إجماع أعضاء المنظومة الخليجية , واستمرت في مواقفها المستقلة والمعارضة للسياسة الخارجية للسعودية في دعمها لحزب الله في حربه ضد اسرائيل عام 2006 , وتأييدها لكفاح حماس المسلح في حربها ضد اسرائيل في العام 2009 , وعزز العاهل القطري الشيخ حمد من موقفه المعلن بزيارة تاريخية إلى جنوب لبنان وقطاع غزة وضخ بلايين الدولارات من أجل إعادة إعمار المنطقتين المنكوبتين. وبعد أن أكتسبت قطر شرعية وجودها من الراعي الأمريكي للمنطقة كبقية شركائها في المنظومة الخليجية, بدأت بمزاحمة العرش السعودي بتشغيل وبث قناة الجزيرة التي ما أنفكت تعكس الداخل السعودي بكل تناقضاته الإجتماعية والأقتصادية وصراعاته السياسية والإجتماعية بما في ذلك استضافة بعض رموز المعارضة السعودية بالخارج في برامجها الفضائية. ولم تكن قناة الجزيرة ورقة الضغط السياسية أو أحدى أهم أدوات السياسية الخارجية القطرية التي ابتز بها النظام القطري الحكومة السعودية , بل صاحب ذلك توظيف الدين بطريقة براغماتية ونفعية محاكية بذلك تجربة النظام السعودي في علاقة السلطة بالدين . وبكل ذكاء واحتراف سياسي أنشات الحكومة القطرية ( إتحاد العلماء المسلمين ) كمؤسسة ايديولوجية أوبروباغندا دينية يرأسها الشيخ القرضاوي , بهدف نشر نظرة الأخوان للاسلام العصراني وتقديم تسخة جديدة أكثراعتدالا ومرونة وتسامحا مذهبيا لفهم مدلولات النص الديني ومقاصد الشريعة. والهدف غير المعلن من ذلك هو ضرب شرعية مؤسسة (لرابطة العالم الإسلامي ) التي تهيمن عليه النظرة الضيقة للسلفية الوهابية المدعومة من الحكومة السعودية . ولم تكتف قطر بتقويض القوة الأيديولوجية السعودية , بل بدأت بأستنزاف القوة العقلية المفكرة لها وإستنزاف ماتبقى من رصيد قوتها المعنوية عبر منح الجنسية القطرية للنخب الفكرية والإعلامية وأساتذة الجامعات السعوديين الذي يشكلون الضمير الحي للعقل الجمعي في أي بلد بالعالم , وأحد أهم مصادر تشكيل الوعي الجماهيري, وأهم روافد التعبئة العامة والحالة الثورية في كل أنظمة العالم, ناهيك عن المناكفة الإقتصادية في إتاحة الفرص والوظائف العامة في الجهاز البيروقراطي القطري للمواطنين السعوديين.
وعلى الرغم من أهمية كل أشكال القوة والتنوع النسبي في مقدراتها التأثيرية على السياسات الدولية, الا أن حرق مراحل الصراع بين البلدين اتخذ شكله النهائي مع توظيف الحكومة القطرية للأيديولوجيا التعبوية لحركة الأخوان المسلمين لإحداث نقلة نوعية في مسار الثورات العربية بداءا من تونس وليبيا واليمن وسوريا وانتهاءا بمصر . و الدور القطري في الحالة المصرية كانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير وأدت في نهاية الأمر إلى ارهاصات تفكك النسيج الوحدوي للمنظومة الخليجية بسبب بوادر الرغبة القطرية بتغيير توازن القوى التقليدي الثنائي المصري- السعودي في المنظومة الإقليمية
أخيرا وبكل تأكيد لم ينتهي التاريخ ولن ينتهي عند هذا التغير الجوهري في منظومة العمل الخليجي , ولن ينتهي كذلك عند حالات الشقاق والأختلاف على كل صيغ الأتفاق والوحدة وحالة الإجماع التاريخي بين الدول الأعضاء , ولكن في ذات السياق من الصعب إنكار الحقيقة بأن دولة قطر ومن خلال سلوكها السياسي المنظم في هذه المدة الزمنية القصيرة أكدت بأنها رقما صعبا في المنظومة الخليجية بشكل خاص والإقليمية بشكل عام, بما إمتلكته من مصادر قوة اقتصادية واعلامية ودولية وايديولوجية أصبحت من خلالها معادلا إستراتيجيا صلبا في المشهد المحلي والإقليمي. بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك بالقول بأن تلك السياسات القطرية التي استقلت عن حالة الإجماع الخليجي في كثير من المواقف السياسية لربما قد تستقل في سلوكها السياسي المستقبلي بالمساهمة الفعالة في بناء منظومة إقليمية جديدة أوتشكيل تحالفات إستراتيجية من نوع أخر قد يضاف إليها لربما كل من ايران وتركيا أوبعض الدول الأخرى كجبهة أقليمية موازنة أو مضادة أو منافسة للتكتلات الأقليمية الحاضرة . قد يصعب تصور إحتمال ذلك ولكن من المستحيل أيضا استبعاده بشكل كلي لاسيما في حال استمرار عزل قطر عن محيطها الأستراتيجي وخاصة في ظل علاقاتها الأمنية الاستراتيجية مع الإدارة الأمريكية التي لربما قد تلعب دورا حيويا إما بوضع صيغ جديدة لرسم خارطة توازن جديدة في المنطقة بلاعبين جدد وهو الإحتمال الأكثر توقعا , أو لربما تساهم بإعادة إنتاج شكل توازن القوى القديم وقسر قطر بالعودة إلى منظومتها التقليدية وهو إحتمال لايمكن التغاضي عنه أيضا. كل السيناريوهات مفتوحة في الأفاق وقابلة للتصور , ولكن يبقى هناك تساؤل مشروع و مثير للحيرة حول ديمومة وبقاء شهر العسل بين النظام القطري وحركة الأخوان المسلمين , وإمكانيات التوافق والصراع بين طبيعة الأيديولوجيا الحركية للأخوان ومنطق المصلحة النفعية للدولة القطرية , وما إذا كان تبني حكومة قطر لبرنامج الإخوان قد ينتج الحلم الطوباوي للإسلامويين بتشكيل نموذج لدولة مثالية يعمل فيها السياسي لخدمة الدين , لا خدمة الدين للسياسي.
الكاتب
جبران بن نيتشه